الحمد لله غير مقنوط من رحمته،ولا ميؤس من مغفرته،وأشهد ألا إله إلا الله نشكره على نعمته وأشهد أن محمداً عبده اصطفاه لرسالته صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته والتابعين ومن سار على نهجه واستمسك بسنته وحافظ على شريعته وسلم تسليما كثيراً.أما بعد..(إن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا)اللهم اغفر لأمواتنا وعافهم واعف عنهم،وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم..
أيُّها المسلمون..من خاف الوعيد قَصُر عليه البعيد،ومن طالَ أملُه ضَعُفَ عملُه،وكلُّ ما هو آتٍ قريب فإنَّ ربكم لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدا،فتزودوا من دنياكم ما تُحرزون به أنفسَكم غداً. فالأجل مستور،والأمل خادع..يكاد لا يمرُّ بنا يومٌ إلا وجنازةٌ يُصلّى عليها وتدفنُ في القبور ثم تبعثُ يومَ النشور..كثرت الوفيات فامتلأت المقابر وازدحمت بأهلها والمشيعين..
حكمُ المنية في البرية جار
ما هذه الدنيا بدار قرار
طُبعت على كَدَرٍ وأنتَ تريدُها
صفواً من الأقذارِ والأكدارِ
نسمع بالموت يومياً وتمرُّ الجنائزُ بنا،ونصلي عليها ونسيرُ خلفَها ونشيعها محمولةً إلى القبور..فترانا نُلقي عليها نظرات عابرة،ونحزن ثم نذكرُ المآثر..وسرْعان ماننسى وننشغل بنشوة الحياة وغفلة المعاش.
أَيُّها الإخوة..أهلُ الغفلةِ أعمارُهم عليهم حُجَّة،وأيامُهم تقودُهم إلى شقوة..كيف تُرجَى الآخرةُ بغير عمل؟وهل تُرجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟ويل لأهل الغفلة إن أُعطوا لم يشبعوا،وإن مُنعوا لم يقنعوا،يأمرون بما لا يفعلون،يُنهون وهم لا ينتهون،هم للناس لوَّامون ولأنفسهم مداهنون.
يا نفس توبي فان الموتَ قد حانا
واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
في كـــلِّ يوم لنـا ميْتٌ نشــيُّعه
نُـحيي بمصـرعهِ آمالَ موتــانـا
يا أهل الغفلة..هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟وكم من مطمئنٍ إليها صرعتْه؟وكم من محتالٍ فيها خدعتْه؟وكم من مختالٍ أصبح حقيرا؟وذي نخوة أردتْه ذليلا؟سلطانُها دول وحلوها مر،وعذبُها أجاج، وعزيزها مغلوب،العمرُ فيها قصير،والعظيمُ فيها يسير،وجودُها إلى عدم،وسرورُها إلى حزن،وكثرتُها إلى قلة،وعافيتُها إلى سقم،وغِناها إلى فقر دارُها مكَّارة،وأيامها غَرّارة،ولأصحابِها بالسوء أمَّارة..الأحوالُ فيها نعمٌ زائلة أو بلايا نازلة ومنايا قاضية.عِمارتُها خراب،واجتماعُها فِراق،وأهلُ الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا،ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا،يبنون ما لا يسكنون..يؤملون ما لا يدركون..(ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)والموت آتيهم لامحالة..طويل الأمل يبني ويهدم،وينقضُ ويبرم،ويخطِّطُ ويدبر،وتأتي الأمور مخالفةً للتدبير..ثم هاهو قد تم أجله وانقطع عمله وأسلمه أهله (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ)
أيها المسلمون..(أكثروا من ذكر هادم اللذات)؛فمن ذكر الموت حقَّ ذكره حاسب نفسه..واعلموا أن كلَّ لحظةٍ تقرّبكم من الدارِ الآخرة وتبعدُكم عن الدنيا فلا تغتروا وشمروا للأعمال الصالحة فهي القرائن في القبور فإن العبد إذا مات يخرجُ أهلُه ومالُه ويبقى عملُه فإن كان صالحاً فنعم القرين وإن كان غيرَ ذلك فهو الخسرانُ المبين..الموت ما ذكرهَ أحدٌ في ضيقٍ من العيش إلا وسَّعه،ولا غفلةٍ إلا انتبه وبعض الناس يأنف من ذكر الموت ويتشاءم الكلام فيه والتذكير به في موضعه وما ذاك إلا غفلةٌ في الحياة وتجاهلٌ للسنن وهجرٌ للوعظ به..وأيمْ الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يَبْلَى،والحيُّ منا ومنكم أن يموت وأن تُزال الأرضُ منا كما أُزلنا منها،فتأكلَ ثم تكونُ كما قال الله(وَنُفِخَ في ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن في ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن في ٱلأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)وقف صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قال..(يا إخواني لمثل هذا فأعدُّوا)،وسأله رجل..من أذكى الناسِ يا رسولَ الله؟فقال..((أكثرُهم ذكراً للموت وأشدُّهم استعداداً له،أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة))أخرجه ابن ماجه وقال صلى الله عليه وسلم.."الكيّسُ من دانَ نفسَه وعملَ لما بعدَ الموت والعاجزُ من اتبعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني "رواه الترمذي
أيها المسلمون..اذكرُوا الموتَ والسكرات،وحشرجةَ الروح والزفرات،اذكروا هولَ المطْلعَ..من أكثرَ ذكرَ الموتِ أكرمَه الله بثلاث..تعجيلُ التوبة،وقناعةُ القلب،ونشاطُ العبادة..ومن نسيَ الموتَ اُبتلي بثلاث..تسويفُ التوبة،وتركُ الرضى بالكفاف،والتكاسلُ في العبادة..وقد استبدل الأموات بظهرِ الأرض بطنا،وبالسعةِ ضيقاً،وبالأهلِ غُربةً،وبالنورِ ظُلمةً،جاءُوهَا حُفاةً عراةً فرادا..اللحودُ مساكنُهم،والترابُ أكفانهم،والرفاتُ جيرانهم لا يجيبون داعيا،ولا يسمعون منادياً..كانوا أطولَ أعمارا وأكثرَ آثارا،فما أغناهم ذلك من شيء لما جاءَ أمرُ ربك،فأصبحت بيوتُهم قبوراً،وما جمعوا بوراً،وصارت أموالهم للوارثين،وأزواجُهم لقوم آخرين..حلَّ بهم ريب المنون،وجاءهم ما كانوا يوعدون(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)
هل كان الموتُ للصغيرِ أم كان للكبير؟!أم للصحيح المعافى أم للمريض؟!أم للغنِّي أم للفقير أم للأمير أو الحقير كلُّهم جاءهم الموتُ من كلِّ مكان فما كانَ العمرُ ليحمي وما حالت الصحةُ دونَه وما كان المال ليغني ولا المنصبُ ليحمي..فهل يستأذنُك الموت؟قد تموت وفي رقبتِك حقوقٌ للعباد.. وإذا جاءك الموتُ؟هل بحسنِ الخاتمةِ يأتيك أم بسوئِها؟تجد من يأتيه الموت على طاعة وحسن عمل أو من تأتيه منيته وهو عاكفٌ على المحرمات..وهناك من مات وقد عاش مرابياً لعّاناً فاحشاً مؤذياً قاطعاً للرحم معادياً لأقربائه والناس..
كم سوَّفَ هؤلاء التوبة وأرادوا العودة فحالت بينهم وبينها الشهوة؟جاءهم موتٌ ما كانوا يتوقعّونه فمن عاش على الخير والإخلاص أنجاه الله بخاتمةٍ حسنة..نسأل الله أن نكون وإياكم منهم
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَقُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ –ثم يقول تعالى-وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍأَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَالَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَلَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))هل تفكرت يا عبد الله يوم المصرع؟يوم ليس لدفعه حيلة،ولا ينفع عند نزوله ندم..أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين،فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور،ولحظات العيون،(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ)..تذكّرُ الموتِ يردعُ عن المعاصي،ويلين القلبَ القاسي،ويمنعُ الركون إلى الدنيا((وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً))
فلا يفاجئك الموت-عبد الله-وأنت على غِرِّة واستعدَّ له بتجنب الغفلة..
هُوَ المَوتُ ما منهُ ملاذٌ وَمهربُ
متى حُطَّ ذا عن نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
شاهدُ ذا عَينُ اليَقينَ حَقيقَةً
عَلَيهِ مضى طِفلٌ وَكهلٌ وَأَشيَبُ
نؤَمِّلُ آمالاً وَنرجو نِتاجَها
وَعلَّ الرَدى مِمّا نُرَجّيهِ أَقرَبُ
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ)
أيها المسلمون..توبوا إلى الله قبل أن تموتوا،(بادروا بالأعمال قبل أن تُشغلوا،فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ)لا تكونوا – رحمكم الله – ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل.وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة..وأكثروا من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة..اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، وعمله شاهدٌ عليه يوم الحساب كم جمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تُغن عنهم أموالُهم،محا الترابُ محاسن وجوههم،وتفرقت في القبور أشلاؤهم،وترملت من بعدهم نساؤهم وقسمت أموالهم ومساكنهم(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ)
عباد الله..اتقوا الله وأرجو الجنة في الدار الآخرة،يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين(دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ) قال صلى الله عليه السلام..(من أحبَّ أن يُزحزَح عن النّار ويُدخل الجنّةَ فلتأتِه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر،وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يؤتَى إليه)أخرجه مسلم اللهم أحينا ما كانت الحياة خير لنا وتوفَّنا ما علمتَ الوفاة خيراً لنا..اختم بالصالحات أعمالنا..اجعل خير أعمالنا خواتيمها..وخير أعمارنا أواخرها..وخير أيامنا يوم لقائك..في غير ضراء مضرّة ولا فتنة مضلة،واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله نحيا ونموت عليها عاملين عارفين موّحدين..أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
أيها الإخوة..مع كثرة ما نسمع من الموت فمن المهم مع التذكرة والعظة أن نحرص على الدعاء للأموات فهم بأمسِّ الحاجة إليه وكذلك ذكرُ محاسنهم والصمت عما يسيء إليهم ومواساةُ أهاليهم وذويهم والصلاة عليهم وبالحديث (ما من رجلٍ مسلمٍ يموت, فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يُشركون بالله شيئًا؛ إلا شفَّعهم الله فيه) رواه مسلم (وإنَّ الرَّجلَ لتُرفَعُ درجتُه في الجنةِ فيقولُ .. أنَّى هذا ؟ فيقالُ..باستغفارِ ولدِك لكَ) رواه بن ماجة
نسأل الله عز وجل أن يختم لنا بالصالحات ويزيدنا حسنات ويجنبنا السيئات..ويجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله عليها نحيا وعليها نموت.
أيُّها المسلمون..من خاف الوعيد قَصُر عليه البعيد،ومن طالَ أملُه ضَعُفَ عملُه،وكلُّ ما هو آتٍ قريب فإنَّ ربكم لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدا،فتزودوا من دنياكم ما تُحرزون به أنفسَكم غداً. فالأجل مستور،والأمل خادع..يكاد لا يمرُّ بنا يومٌ إلا وجنازةٌ يُصلّى عليها وتدفنُ في القبور ثم تبعثُ يومَ النشور..كثرت الوفيات فامتلأت المقابر وازدحمت بأهلها والمشيعين..
حكمُ المنية في البرية جار
ما هذه الدنيا بدار قرار
طُبعت على كَدَرٍ وأنتَ تريدُها
صفواً من الأقذارِ والأكدارِ
نسمع بالموت يومياً وتمرُّ الجنائزُ بنا،ونصلي عليها ونسيرُ خلفَها ونشيعها محمولةً إلى القبور..فترانا نُلقي عليها نظرات عابرة،ونحزن ثم نذكرُ المآثر..وسرْعان ماننسى وننشغل بنشوة الحياة وغفلة المعاش.
أَيُّها الإخوة..أهلُ الغفلةِ أعمارُهم عليهم حُجَّة،وأيامُهم تقودُهم إلى شقوة..كيف تُرجَى الآخرةُ بغير عمل؟وهل تُرجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟ويل لأهل الغفلة إن أُعطوا لم يشبعوا،وإن مُنعوا لم يقنعوا،يأمرون بما لا يفعلون،يُنهون وهم لا ينتهون،هم للناس لوَّامون ولأنفسهم مداهنون.
يا نفس توبي فان الموتَ قد حانا
واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
في كـــلِّ يوم لنـا ميْتٌ نشــيُّعه
نُـحيي بمصـرعهِ آمالَ موتــانـا
يا أهل الغفلة..هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟وكم من مطمئنٍ إليها صرعتْه؟وكم من محتالٍ فيها خدعتْه؟وكم من مختالٍ أصبح حقيرا؟وذي نخوة أردتْه ذليلا؟سلطانُها دول وحلوها مر،وعذبُها أجاج، وعزيزها مغلوب،العمرُ فيها قصير،والعظيمُ فيها يسير،وجودُها إلى عدم،وسرورُها إلى حزن،وكثرتُها إلى قلة،وعافيتُها إلى سقم،وغِناها إلى فقر دارُها مكَّارة،وأيامها غَرّارة،ولأصحابِها بالسوء أمَّارة..الأحوالُ فيها نعمٌ زائلة أو بلايا نازلة ومنايا قاضية.عِمارتُها خراب،واجتماعُها فِراق،وأهلُ الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا،ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا،يبنون ما لا يسكنون..يؤملون ما لا يدركون..(ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)والموت آتيهم لامحالة..طويل الأمل يبني ويهدم،وينقضُ ويبرم،ويخطِّطُ ويدبر،وتأتي الأمور مخالفةً للتدبير..ثم هاهو قد تم أجله وانقطع عمله وأسلمه أهله (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ)
أيها المسلمون..(أكثروا من ذكر هادم اللذات)؛فمن ذكر الموت حقَّ ذكره حاسب نفسه..واعلموا أن كلَّ لحظةٍ تقرّبكم من الدارِ الآخرة وتبعدُكم عن الدنيا فلا تغتروا وشمروا للأعمال الصالحة فهي القرائن في القبور فإن العبد إذا مات يخرجُ أهلُه ومالُه ويبقى عملُه فإن كان صالحاً فنعم القرين وإن كان غيرَ ذلك فهو الخسرانُ المبين..الموت ما ذكرهَ أحدٌ في ضيقٍ من العيش إلا وسَّعه،ولا غفلةٍ إلا انتبه وبعض الناس يأنف من ذكر الموت ويتشاءم الكلام فيه والتذكير به في موضعه وما ذاك إلا غفلةٌ في الحياة وتجاهلٌ للسنن وهجرٌ للوعظ به..وأيمْ الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يَبْلَى،والحيُّ منا ومنكم أن يموت وأن تُزال الأرضُ منا كما أُزلنا منها،فتأكلَ ثم تكونُ كما قال الله(وَنُفِخَ في ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن في ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن في ٱلأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)وقف صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قال..(يا إخواني لمثل هذا فأعدُّوا)،وسأله رجل..من أذكى الناسِ يا رسولَ الله؟فقال..((أكثرُهم ذكراً للموت وأشدُّهم استعداداً له،أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة))أخرجه ابن ماجه وقال صلى الله عليه وسلم.."الكيّسُ من دانَ نفسَه وعملَ لما بعدَ الموت والعاجزُ من اتبعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني "رواه الترمذي
أيها المسلمون..اذكرُوا الموتَ والسكرات،وحشرجةَ الروح والزفرات،اذكروا هولَ المطْلعَ..من أكثرَ ذكرَ الموتِ أكرمَه الله بثلاث..تعجيلُ التوبة،وقناعةُ القلب،ونشاطُ العبادة..ومن نسيَ الموتَ اُبتلي بثلاث..تسويفُ التوبة،وتركُ الرضى بالكفاف،والتكاسلُ في العبادة..وقد استبدل الأموات بظهرِ الأرض بطنا،وبالسعةِ ضيقاً،وبالأهلِ غُربةً،وبالنورِ ظُلمةً،جاءُوهَا حُفاةً عراةً فرادا..اللحودُ مساكنُهم،والترابُ أكفانهم،والرفاتُ جيرانهم لا يجيبون داعيا،ولا يسمعون منادياً..كانوا أطولَ أعمارا وأكثرَ آثارا،فما أغناهم ذلك من شيء لما جاءَ أمرُ ربك،فأصبحت بيوتُهم قبوراً،وما جمعوا بوراً،وصارت أموالهم للوارثين،وأزواجُهم لقوم آخرين..حلَّ بهم ريب المنون،وجاءهم ما كانوا يوعدون(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)
هل كان الموتُ للصغيرِ أم كان للكبير؟!أم للصحيح المعافى أم للمريض؟!أم للغنِّي أم للفقير أم للأمير أو الحقير كلُّهم جاءهم الموتُ من كلِّ مكان فما كانَ العمرُ ليحمي وما حالت الصحةُ دونَه وما كان المال ليغني ولا المنصبُ ليحمي..فهل يستأذنُك الموت؟قد تموت وفي رقبتِك حقوقٌ للعباد.. وإذا جاءك الموتُ؟هل بحسنِ الخاتمةِ يأتيك أم بسوئِها؟تجد من يأتيه الموت على طاعة وحسن عمل أو من تأتيه منيته وهو عاكفٌ على المحرمات..وهناك من مات وقد عاش مرابياً لعّاناً فاحشاً مؤذياً قاطعاً للرحم معادياً لأقربائه والناس..
كم سوَّفَ هؤلاء التوبة وأرادوا العودة فحالت بينهم وبينها الشهوة؟جاءهم موتٌ ما كانوا يتوقعّونه فمن عاش على الخير والإخلاص أنجاه الله بخاتمةٍ حسنة..نسأل الله أن نكون وإياكم منهم
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَقُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ –ثم يقول تعالى-وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍأَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَالَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَلَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))هل تفكرت يا عبد الله يوم المصرع؟يوم ليس لدفعه حيلة،ولا ينفع عند نزوله ندم..أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين،فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور،ولحظات العيون،(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ)..تذكّرُ الموتِ يردعُ عن المعاصي،ويلين القلبَ القاسي،ويمنعُ الركون إلى الدنيا((وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً))
فلا يفاجئك الموت-عبد الله-وأنت على غِرِّة واستعدَّ له بتجنب الغفلة..
هُوَ المَوتُ ما منهُ ملاذٌ وَمهربُ
متى حُطَّ ذا عن نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
شاهدُ ذا عَينُ اليَقينَ حَقيقَةً
عَلَيهِ مضى طِفلٌ وَكهلٌ وَأَشيَبُ
نؤَمِّلُ آمالاً وَنرجو نِتاجَها
وَعلَّ الرَدى مِمّا نُرَجّيهِ أَقرَبُ
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ)
أيها المسلمون..توبوا إلى الله قبل أن تموتوا،(بادروا بالأعمال قبل أن تُشغلوا،فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ)لا تكونوا – رحمكم الله – ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل.وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة..وأكثروا من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة..اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، وعمله شاهدٌ عليه يوم الحساب كم جمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تُغن عنهم أموالُهم،محا الترابُ محاسن وجوههم،وتفرقت في القبور أشلاؤهم،وترملت من بعدهم نساؤهم وقسمت أموالهم ومساكنهم(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ)
عباد الله..اتقوا الله وأرجو الجنة في الدار الآخرة،يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين(دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ) قال صلى الله عليه السلام..(من أحبَّ أن يُزحزَح عن النّار ويُدخل الجنّةَ فلتأتِه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر،وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يؤتَى إليه)أخرجه مسلم اللهم أحينا ما كانت الحياة خير لنا وتوفَّنا ما علمتَ الوفاة خيراً لنا..اختم بالصالحات أعمالنا..اجعل خير أعمالنا خواتيمها..وخير أعمارنا أواخرها..وخير أيامنا يوم لقائك..في غير ضراء مضرّة ولا فتنة مضلة،واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله نحيا ونموت عليها عاملين عارفين موّحدين..أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
أيها الإخوة..مع كثرة ما نسمع من الموت فمن المهم مع التذكرة والعظة أن نحرص على الدعاء للأموات فهم بأمسِّ الحاجة إليه وكذلك ذكرُ محاسنهم والصمت عما يسيء إليهم ومواساةُ أهاليهم وذويهم والصلاة عليهم وبالحديث (ما من رجلٍ مسلمٍ يموت, فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يُشركون بالله شيئًا؛ إلا شفَّعهم الله فيه) رواه مسلم (وإنَّ الرَّجلَ لتُرفَعُ درجتُه في الجنةِ فيقولُ .. أنَّى هذا ؟ فيقالُ..باستغفارِ ولدِك لكَ) رواه بن ماجة
نسأل الله عز وجل أن يختم لنا بالصالحات ويزيدنا حسنات ويجنبنا السيئات..ويجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله عليها نحيا وعليها نموت.