الحمد لله غير مقنوط من رحمته،ولا ميؤس من مغفرته،وأشهد ألا إله إلا الله نشكره على نعمته وأشهد أن محمداً عبده اصطفاه لرسالته صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته والتابعين ومن تمسك بسنته وسلم تسليما كثيراً..اللهم اغفر لأمواتنا وعافهم واعف عنهم،وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم..
حكمُ المنية في البريِّة جارِ ما هذه الدنيا بدار قرارِ
طُبعت على كَدَرٍ وأنتَ تريدُها صفواً من الأقذارِ والأكدارِ
تمرُّ الجنائزُ بنا ونراها ونجهزّها نُصلِّي عليها ونسيرُ خلفَها ونُشيُّعها محمولةً إلى القبور..فترانا نُلقي عليها نظراتٍ عابرة،ونحزن ثمَّ نذكرُ المآثر..ثم سرْعان ما ننسى وننشغلُ بنشوة الحياة وغفلة المعاش.
عباد الله..هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟وكم من مُطمئنٍّ إليها صرعتْه؟وكم من محتالٍ فيها خدعتْه؟وكم من مختالٍ أصبح حقيرا؟وذي نخوة أردتْه ذليلا؟سلطانُها دُول وحلوها مر،وعذبُها أجاج، وعزيزها مغلوب،العمرُ فيها قصير،والعظيمُ فيها يسير،وجودُها إلى عدم،وسرورُها إلى حزن،وكثرتُها إلى قلة،وعافيتُها إلى سَقَم ،وغناها إلى فقر دارُها مكَّارة،وأيامها غرارة،ولأصحابِها بالسوء أمَّارة..الأحوالُ فيها نعمٌ زائلة أو بلايا نازلة ومنايا قاضية.عِمارتُها خراب،واجتماعُها فِراق،وأهلُ الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا،ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا،يبنون ما لا يسكنون..يؤملون ما لا يدركون(ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)والموت آتيهم لامحالة..طويل الأمل يبني ويهدم،وينقضُ ويبرم،ويخطِّطُ ويدبِّر، وتأتي الأمور مخالفةً للتدبير..ثم هاهو قد تمَّ أجله وانقطعَ عمله وأسلمه أهله (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ)
(أكثروا من ذكر هادم اللذات)بهذا أوصى نبيكم صلى الله عليه وسلم؛فمن ذكر الموت حقَّ ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه..وكلُّ لحظةٍ تقرّبكم من الدارِ الآخرة وتبعدُكم عن الدنيا فلا تغترُّوا وشمِّروا للأعمال الصالحة فهي القرائنُ بالقبور فإن العبدَ إذا مات يخرجُ أهلُه ومالُه ويبقى عملُه فإن كان صالحاً فنعم القرين وإن كان غيرَ ذلك فهو خسرانٌ مبين..أكثرُوا من ذكرِ هادم اللذات فما ذكرهَ أحدٌ في ضيقٍ من العيش إلا وسَّعه،ولا غفلةٍ إلا انتبه..وبعضُ الناس يأنَفُ من ذكر الموت ويتشاءمُ عند سماعه لا يتكلم عنه أو يُذكّرُ به بموضعه وتلك غفلةٌ في الحياة وتجاهلٌ للسنن وهجرٌ للوعظ به..وأيمْ الله ليوشكنَّ الباقي منا ومنكم أن يَبْلَى،والحيُّ منا ومنكم أن يموت وأن تُزال الأرضُ منا كما أُزلنا منها،فتأكلَ ثم تكونُ كما قال الله(وَنُفِخَ في ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن في ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن في ٱلأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)وقف صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قال..(يا إخواني لمثل هذا فأعدُّوا)،وسأله عليه السلام رجلٌ فقال..من أذكى الناسِ يا رسولَ الله؟فقال..(أكثرُهم ذكراً للموت وأشدُّهم استعداداً له،أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)أخرجه ابن ماجه وقال صلى الله عليه وسلم.."الكيّسُ من دانَ نفسَه وعَملَ لما بعدَ الموت والعاجزُ من اتبعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني "رواه الترمذي..خطب الخليفة عمر بن عبد العزيز أخرَ خطبةٍ له فقال..أيها الناس إنكم لم تُخلّقُوا عبثاً ولن تُتركُوا سُدى وفي كلِّ يوم تشيِّعون غادياً ورائحاً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب وواجهَ الحساب،غنياً عمّا خلَّف من المالِ فقيراً إلى ما أسلف من الأعمال وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحدٍ من الذنوب أكثر مما عندي ولكني استغفرُ الله وأتوبُ إليه ثم رفعَ طرفَ ردائه وبَكى حتى شهِق ثم نزلَ فما عادَ للمنبر بعدها حتى مات رحمه الله..
أيها المسلمون..اذكرُوا الموتَ والسكرات،وحشرجةَ الروحِ والزفرات،اذكروا هولَ المطْلعَ..من أكثرَ ذكرَ الموتِ أكرمَه الله بثلاث..تعجيلُ التوبة،وقناعةُ القلب،ونشاطُ العبادة..ومن نسيَ الموتَ اُبتلي بثلاث.. تسويفُ التوبة،وتركُ الرضى بالكفاف،والتكاسلُ في العبادة..
لقد استبدلَ الأمواتُ بظهرِ الأرض بطناً،وبالسعةِ ضيقاً،وبالأهلِ غُربةً،وبالنورِ ظُلمةً،جاءُوهَا حُفاةً عراةً فرادا..اللحودُ مساكنُهم،والترابُ أكفانهم،والرفاتُ جيرانهم لا يجيبون داعيا،ولا يسمعون منادياً..كانوا أطولَ أعمارا وأكثرَ آثارا،فما أغناهم ذلك من شيء لما جاءَ أمرُ ربك،فأصبحت بيوتُهم قبوراً،وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين،وأزواجُهم لقوم آخرين..حلَّ بهم ريب المنون،وجاءهم ما كانوا يوعدون (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)..فهل يستأذنُك الموت؟ثمَّ الحذرَ الحذرَ أن تموتَ وفي رقبتِك حقوقٌ للعباد..فقد يعفو الله عن ذنوبك لكن حقوقَ الناس ما لها فِكاك إلا بتنازلهم..وانتبه للموت أن يأتيك بحسنِ الخاتمةِ واسأل الله ذلك..منهم من يأتيه الموت على طاعة وحسن عمل وغيره تأتيه منيتُه وهو عاكفٌ على وسائلِ لهوٍ وغفلةٍ أو منكرٍ يُمارسه أو مُؤذياً قاطعاً للرحم معادياً لأقربائه فكم سوَّفَ هؤلاء التوبة وأرادوا العودة فحِيل بينهم..جاءهم موتٌ ما كانوا يتوقعّون وقته(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ*قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ –ثم يقول تعالى-وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ*أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ*لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)هل تفكرت يا عبد الله يومَ المصرع؟يومٌ ليس لدفعه حيلة،ولا ينفع عند نزوله ندم..أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين،فإنك واقف بين يدي مَن يعلم وسواس الصدور،ومن يسأل عن لحظات العيون،وسمعٍ لا يخفى(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) تَذكّرُ الموتِ -إخوتي- يردعُ عن المعاصي،ويُلينُ القلبَ القاسي،ويمنعُ الركون للدنيا ويُعطي للإنسان فُرصة(وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)لا يفاجئك الموت يا عبد الله وأنت على غرة وإذا حضرك الموت وسكرته هل يسُّرك أن يكون نصيبك من الدنيا عبثٌ ولهو وهل يسرك أن تحشر مع أهله فالمرء مع من أحب؟(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ*وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)
هُوَ المَوتُ ما منهُ ملاذٌ وَمهربُ متى حُطَّ ذا عن نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
شاهدُ ذا عَينُ اليَقينَ حَقيقَةً عَلَيهِ مضى طِفلٌ وَكهلٌ وَأَشيَبُ
نؤَمِّلُ آمالاً وَنرجو نِتاجَها وَعلَّ الرَدى مِمّا نُرَجّيهِ أَقرَبُ
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ)فتوبوا إلى الله قبل أن تموتوا(بادروا بالأعمال قبل أن تُشغلوا،فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ)لا تكونوا– ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل.وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة.
اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب من شيبٍ وشباب،وعملهم شاهدٌ عليهم يومَ الحساب كم جمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تُغن عنهم أموالُهم،محا الترابُ محاسن وجوههم،وتفرقت في القبور أشلاؤهم،وترمَّلتَ من بعدِهم نساؤهم وقُسِّمَتْ أموالهم ومساكنهم(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ)
فاتقوا الله وأرجو الجنة في الدار الآخرة،يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين قال صلى الله عليه السلام..(من أحبَّ أن يُزحزَح عن النّار ويُدخل الجنّةَ فلتأتِه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر،وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يؤتَى إليه)أخرجه مسلم اللهم أحينا ما كانت الحياة خير لنا وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا..اختم بالصالحات أعمالنا..اجعل خير أعمالنا خواتيمها..وخير أعمارنا أواخرها..وخير أيامنا يوم لقائك..في غير ضراء مضرّة ولا فتنة مضلة،واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله نحيا ونموت عليها عاملين عارفين موّحدين..أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية ..
مختصرة
حكمُ المنية في البريِّة جارِ ما هذه الدنيا بدار قرارِ
طُبعت على كَدَرٍ وأنتَ تريدُها صفواً من الأقذارِ والأكدارِ
تمرُّ الجنائزُ بنا ونراها ونجهزّها نُصلِّي عليها ونسيرُ خلفَها ونُشيُّعها محمولةً إلى القبور..فترانا نُلقي عليها نظراتٍ عابرة،ونحزن ثمَّ نذكرُ المآثر..ثم سرْعان ما ننسى وننشغلُ بنشوة الحياة وغفلة المعاش.
عباد الله..هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟وكم من مُطمئنٍّ إليها صرعتْه؟وكم من محتالٍ فيها خدعتْه؟وكم من مختالٍ أصبح حقيرا؟وذي نخوة أردتْه ذليلا؟سلطانُها دُول وحلوها مر،وعذبُها أجاج، وعزيزها مغلوب،العمرُ فيها قصير،والعظيمُ فيها يسير،وجودُها إلى عدم،وسرورُها إلى حزن،وكثرتُها إلى قلة،وعافيتُها إلى سَقَم ،وغناها إلى فقر دارُها مكَّارة،وأيامها غرارة،ولأصحابِها بالسوء أمَّارة..الأحوالُ فيها نعمٌ زائلة أو بلايا نازلة ومنايا قاضية.عِمارتُها خراب،واجتماعُها فِراق،وأهلُ الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا،ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا،يبنون ما لا يسكنون..يؤملون ما لا يدركون(ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)والموت آتيهم لامحالة..طويل الأمل يبني ويهدم،وينقضُ ويبرم،ويخطِّطُ ويدبِّر، وتأتي الأمور مخالفةً للتدبير..ثم هاهو قد تمَّ أجله وانقطعَ عمله وأسلمه أهله (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ)
(أكثروا من ذكر هادم اللذات)بهذا أوصى نبيكم صلى الله عليه وسلم؛فمن ذكر الموت حقَّ ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه..وكلُّ لحظةٍ تقرّبكم من الدارِ الآخرة وتبعدُكم عن الدنيا فلا تغترُّوا وشمِّروا للأعمال الصالحة فهي القرائنُ بالقبور فإن العبدَ إذا مات يخرجُ أهلُه ومالُه ويبقى عملُه فإن كان صالحاً فنعم القرين وإن كان غيرَ ذلك فهو خسرانٌ مبين..أكثرُوا من ذكرِ هادم اللذات فما ذكرهَ أحدٌ في ضيقٍ من العيش إلا وسَّعه،ولا غفلةٍ إلا انتبه..وبعضُ الناس يأنَفُ من ذكر الموت ويتشاءمُ عند سماعه لا يتكلم عنه أو يُذكّرُ به بموضعه وتلك غفلةٌ في الحياة وتجاهلٌ للسنن وهجرٌ للوعظ به..وأيمْ الله ليوشكنَّ الباقي منا ومنكم أن يَبْلَى،والحيُّ منا ومنكم أن يموت وأن تُزال الأرضُ منا كما أُزلنا منها،فتأكلَ ثم تكونُ كما قال الله(وَنُفِخَ في ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن في ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن في ٱلأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)وقف صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى حتى بلَّ الثرى ثم قال..(يا إخواني لمثل هذا فأعدُّوا)،وسأله عليه السلام رجلٌ فقال..من أذكى الناسِ يا رسولَ الله؟فقال..(أكثرُهم ذكراً للموت وأشدُّهم استعداداً له،أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)أخرجه ابن ماجه وقال صلى الله عليه وسلم.."الكيّسُ من دانَ نفسَه وعَملَ لما بعدَ الموت والعاجزُ من اتبعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني "رواه الترمذي..خطب الخليفة عمر بن عبد العزيز أخرَ خطبةٍ له فقال..أيها الناس إنكم لم تُخلّقُوا عبثاً ولن تُتركُوا سُدى وفي كلِّ يوم تشيِّعون غادياً ورائحاً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب وواجهَ الحساب،غنياً عمّا خلَّف من المالِ فقيراً إلى ما أسلف من الأعمال وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحدٍ من الذنوب أكثر مما عندي ولكني استغفرُ الله وأتوبُ إليه ثم رفعَ طرفَ ردائه وبَكى حتى شهِق ثم نزلَ فما عادَ للمنبر بعدها حتى مات رحمه الله..
أيها المسلمون..اذكرُوا الموتَ والسكرات،وحشرجةَ الروحِ والزفرات،اذكروا هولَ المطْلعَ..من أكثرَ ذكرَ الموتِ أكرمَه الله بثلاث..تعجيلُ التوبة،وقناعةُ القلب،ونشاطُ العبادة..ومن نسيَ الموتَ اُبتلي بثلاث.. تسويفُ التوبة،وتركُ الرضى بالكفاف،والتكاسلُ في العبادة..
لقد استبدلَ الأمواتُ بظهرِ الأرض بطناً،وبالسعةِ ضيقاً،وبالأهلِ غُربةً،وبالنورِ ظُلمةً،جاءُوهَا حُفاةً عراةً فرادا..اللحودُ مساكنُهم،والترابُ أكفانهم،والرفاتُ جيرانهم لا يجيبون داعيا،ولا يسمعون منادياً..كانوا أطولَ أعمارا وأكثرَ آثارا،فما أغناهم ذلك من شيء لما جاءَ أمرُ ربك،فأصبحت بيوتُهم قبوراً،وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين،وأزواجُهم لقوم آخرين..حلَّ بهم ريب المنون،وجاءهم ما كانوا يوعدون (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)..فهل يستأذنُك الموت؟ثمَّ الحذرَ الحذرَ أن تموتَ وفي رقبتِك حقوقٌ للعباد..فقد يعفو الله عن ذنوبك لكن حقوقَ الناس ما لها فِكاك إلا بتنازلهم..وانتبه للموت أن يأتيك بحسنِ الخاتمةِ واسأل الله ذلك..منهم من يأتيه الموت على طاعة وحسن عمل وغيره تأتيه منيتُه وهو عاكفٌ على وسائلِ لهوٍ وغفلةٍ أو منكرٍ يُمارسه أو مُؤذياً قاطعاً للرحم معادياً لأقربائه فكم سوَّفَ هؤلاء التوبة وأرادوا العودة فحِيل بينهم..جاءهم موتٌ ما كانوا يتوقعّون وقته(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ*قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ –ثم يقول تعالى-وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ*أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ*لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)هل تفكرت يا عبد الله يومَ المصرع؟يومٌ ليس لدفعه حيلة،ولا ينفع عند نزوله ندم..أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين،فإنك واقف بين يدي مَن يعلم وسواس الصدور،ومن يسأل عن لحظات العيون،وسمعٍ لا يخفى(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) تَذكّرُ الموتِ -إخوتي- يردعُ عن المعاصي،ويُلينُ القلبَ القاسي،ويمنعُ الركون للدنيا ويُعطي للإنسان فُرصة(وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)لا يفاجئك الموت يا عبد الله وأنت على غرة وإذا حضرك الموت وسكرته هل يسُّرك أن يكون نصيبك من الدنيا عبثٌ ولهو وهل يسرك أن تحشر مع أهله فالمرء مع من أحب؟(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ*مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ*وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)
هُوَ المَوتُ ما منهُ ملاذٌ وَمهربُ متى حُطَّ ذا عن نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
شاهدُ ذا عَينُ اليَقينَ حَقيقَةً عَلَيهِ مضى طِفلٌ وَكهلٌ وَأَشيَبُ
نؤَمِّلُ آمالاً وَنرجو نِتاجَها وَعلَّ الرَدى مِمّا نُرَجّيهِ أَقرَبُ
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ)فتوبوا إلى الله قبل أن تموتوا(بادروا بالأعمال قبل أن تُشغلوا،فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ)لا تكونوا– ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل.وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة.
اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب من شيبٍ وشباب،وعملهم شاهدٌ عليهم يومَ الحساب كم جمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تُغن عنهم أموالُهم،محا الترابُ محاسن وجوههم،وتفرقت في القبور أشلاؤهم،وترمَّلتَ من بعدِهم نساؤهم وقُسِّمَتْ أموالهم ومساكنهم(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ)
فاتقوا الله وأرجو الجنة في الدار الآخرة،يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين قال صلى الله عليه السلام..(من أحبَّ أن يُزحزَح عن النّار ويُدخل الجنّةَ فلتأتِه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر،وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يؤتَى إليه)أخرجه مسلم اللهم أحينا ما كانت الحياة خير لنا وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا..اختم بالصالحات أعمالنا..اجعل خير أعمالنا خواتيمها..وخير أعمارنا أواخرها..وخير أيامنا يوم لقائك..في غير ضراء مضرّة ولا فتنة مضلة،واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله نحيا ونموت عليها عاملين عارفين موّحدين..أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية ..
مختصرة