الحمد لله وحده أنزل الفرقان وأشهد أن لا إله إلا الله خلق الإنسان،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله زعيم الفصاحة والبيان..صلى الله عليه وعلى صحبه أجمعين..أما بعد فاتقوا الله عباد الله..
كم تعجب ممن يطوِّف ببصره هنا وهناك،يتتبع مقالاتِ،يقتص أثرها ويتقصاها،وعقله وقلبه منشغل بوسائل التواصل يتتبع غرائبها ثم لا يعطف ببصره على ما في كتاب ربه من حِكمٍ ووصايا، ومواعظَ وآدابٍ، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد..ولو تملَّاه وعطف ببصره إليه، وتتبَّع آياته يتدبرها لاستخراجِ حكماً وعبراً..
فما أحرى بالمؤمن،أن يجعل للقرآن نظراً وتدبراً وقراءةً تطبقاُ لأوامره واجتناباً لنواهيه وتصديقاً لمحكمة وإيماناً بمتشابهه من القرآن يبدأ، وإليه يعود..ومن عجائب القرآن الربانية ما ذكره الله على لسان عبده الصالحِ لقمانَ،سبع آيات ساقها الله في كتابه ليقرِّرَها على عباده كموقف أبوي يعظ ابنه..وهي وصايا عظيمة لرجلٍ حكيمٍ جامعة نافعة،وسميت السورة بلقمان لأنها احتوت وصاياه لابنه ولقمان كان رجلا صالحا لم يكن نبيا في قول أكثر أهل العلم،كان من بلاد النوبة جنوب مصر،أتاه الله الحكمة،بحسنِ الفهمِ والإصابةِ في القول والعمل،ومعرفةُ الحقائق على ما هي عليه،والحكمةُ منحةٌ وهبة عظيمة يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من عباده، كما قال عز وجل (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)
كان لقمان حكيماً صالحاً (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)فشك النعم ومعرفة قدرها حكمة..
ثم تأتي تلك الوصايا الحكيمة،ولو لم تكن وصايا ربانية حكيمة لما كانت جديرةً بالذكر في كتاب الله العظيم..(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)الوالد هنا يريد لولده الخير والنصيحة من الوالد لولده مُبرأةٌ من كل شبهة،موعظة صادقة بدأها بتودّد(يابني)ثم بدأها بالتوحيد دعوة الأنبياء والمرسلين لأقوامهم أن اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ثم يُبيّنُ ويؤكّدُ بأن الشركَ ظلمٌ عظيم (ومهما ظلم المرء نفسه،فأسوء الظلم الشركُ بالله،والله يغفر للعباد كل شيء إلا الشرك به!!]في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال..لما نزل قول الله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)شقَّ ذلك على الصحابة فقالوا.. يا رسول الله،أينا لم يظلم نفسه؟فقال– صلى الله عليه وسلم–..«إنه ليس بذاك، ألا تسمعوا قول لقمان(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)] (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)بعض الناس يقع بالشرك من حيث لا يدري مخالفاً للفطرة إما بشعوذة أو دجل أو تعظيم وصرف العبادة لغير الله..من قبورٍ وأولياء..
ويمضي لقمان بموعظة ولده(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)إنه تقريرٌ لحقيقة يوقن بها كلُّ مؤمن..يذكّرُ بها لقمانُ ابنَه؟!من أجلِ أن يُعظِّمَ في قلبه خشيةَ الله ومراقبته وتقواه، فهناك حساب دقيق،وجزاء عادل،فلا تظلم نفس شيئاً)وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا، وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)ويعرض لقمان لابنه في صورة مؤثرةٍ يرجف لها الفؤاد، وهو يتفكر في علم الله الشامل الدقيق..وبروعة تعبيرٍ يكشف عن دِّقةِ علمِ الله وقدرتِه سبحانَه؛بعضُنا ربما لا يدرك المعنى الدقيق لحبة الخردل؛وهي جرمٌ صغيرٌ متضائل في الصِغَر.ضائعةٌ في كونٍ فسيح لا وزن لها ولا قيمة،تخيّلها في صخرة،لا يعلمُ الناظرُ ما فيها ولا ما تحتَها،أوهي سابحةٌ في ملكوت السماوات،في فضاء عجيب،أو ضائعةٌ بين ثرى الأرض وحصاها..فمهما تكن يأت بها الله!فعلمُه يلاحقُها،وقدرتُه لاتُفلتها..إن الله لطيف خبير..دعوةٌ للقلب أن يؤمن ثم يخشع وينيبَ للطيفِ،الخبيرِ بخفايا الغيوب..وفي تذكير لقمانَ لابنه بهذه الحقيقة تربيةٌ له على مراقبة الله في أعماله كلها، في سرِّهِ وعَلَنِه،وفي إقامتِه وظَعْنِه؛لتكونَ مراقبةُ الله ضابطة لدينه وسلوكه وأخلاقهِ مع الناس،وفي خاصة نفسه..واليوم إخوتي مع اتساع التقنية ووسائل التواصل التي فعلاً لا يمكن مراقبتها لا نملك إلا زرع الرقابة الذاتية في نفوس الناس وأسرنا وأولادنا..كلٌّ رقيبٌّ على نفسه فيما يفعل ويتق الله في دينه وخُلِقه وبأن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك..
ثم يمضي لقمان في وصاياه لولده، فيأمره بأعظم ركن بعد التوحيد،(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ) وليست الصلاة مجرد الأتيان بحركاتها وسكناتها،بل لا بد من إقامة أركانها، وشروطها، وواجباتها، والمحافظة عليها في وقتها..واحرصوا إخوتي على أولادكم بالصلاة رغم تقصيرهم فإنها عبادة لله تنهاهم عن الفحشاء والمنكر..وهي تشهد الآن ضعفاً بأدائها من البعض!!
وينتقل لقمانُ في وصاياه لولده من علاقته بربه إلى علاقته بالناس،فيوصيه بمخالطتهم والصبرِ على أذاهم، والسعيِ للتأثير فيهم، والإصلاحِ من شأنهم؛والمشاركة بالخير معهم فهو لا يريد من ولده أن يعيش في عزلة عن الناس، ولو في صومعة يتحنّث فيها لربه(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) ثم يصبرُ على ما يصيبه(وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)ليُشعرَه أن من تصدَّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو سيلقى أذىً كثيراً،تمتد به الألسنةُ أو الأيدي،وأن الصبر على ذلك مِنْ عزمِ الأمور[وما أعطي عبدٌ عطاءً أوسع من الصبر]..بعضنا اليوم مع تنوع المنكرات إما أن يصاب باليأس أو يتأثر بما يقع وهذا غير صحيح فلا بد من تأثر القلب لما تراه العين أو تسمعه الأذن من منكرات فذلك أضعف الإيمان وليس وراءه حبة خردلٍ من إيمان..
وينصح لقمانُ ابنه بصدق ليذكِّره بآدابٍ أخرى لا مندوحة له عنها حينَ يُخالطُ الناس،فيذكِّره بما يحبّبه إليهم،ويجعلُ أمرَه ونهيَه وإصلاحَه مَحلَّ القبولِ الحسنِ عند الناس(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا..إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)وكأننا بلقمان الحكيم خشي على ولده وهو يقوم بمهمة الإصلاح في مجتمعه،أنه متى شعر بصلاحه في نفسه،ومهمة إصلاح غيره أن يبعثه ذلك على العجب والتعالي عليهم،فيذكِّرُه لقمان الحكيم بأن الدعوةَ إلى الخير لا تُجيزُ له التعاليَ على الناس؛ولا التطاولَ عليهم..ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بلا دعوةٍ للخير أقبحَ وأرذلَ(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)
وتصعيرُ الخَدِّ للناس يُفهمُ منه التكبر عليهم واستحقارُهم،وهذه رسالة لمن نراهم يحتقرون الفقراء أو العمال فكيف بمن ينهرونهم ويؤذونهم عياذاً بالله ثم يقول(ولا تمشِ في الأرض مَرَحَاً)وهو المشي في تخايل وعُجبٍ بالنفس،وقلةِ مبالاة بالناس؛وهي حركة كريهة يمقتها الله، ويمقتها الخلق بفطرتهم. إن الله لا يحب كل مختال فخور..
والنهي عن مشية المرح فيه إيحاء بالمِشْيَة المعتدلة القاصدة،فأمره(واقصد في مشيك)] والقصد هو التوسط بين العلو والتقصير،قيل لعمر رضي الله عنه إنك سريع المشية فقال وقد قيل له مثل هذا.. أنجحُ للحاجةِ،وأبعدُ من الكبر..وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب، فالاسراع المذموم إنما هو الإسراع الذي يخل بالوقار.والمشي المأمور به هو مشي الوقار والسكينة، وهو مشي وسطٌ بين مشيين مذمومين..مشي الخفة والطيش، ومشيِ الكبر والخيلاء..فياله من دينٍ يعلّمنا ويؤدبنا حتى في مشينا وحركتنا..
وهاهنا رسالة مستفادة لكل من يتخايلون ليس بمشيهم فقط بل بإسرافهم ومفاخرتهم ومهايطهم ويصورون ذلك وينشرونه نقول لهم(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)فاكفونا شرَّ إسرافكم ومفاخرتكم وعرضها على الناس للتباهي!!
وبعد ذلك يأمر لقمان ولدَه بالاغضاضِ من الصوت واغضض من صوتك؛إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس،واطمئنانُ إلى قوة حجته،وسلامة منطقه،وصدق حديثه؛وما يزعق في جداله وحواره،أو يغلظُ في خطابه،إلا سيءُ الأدب،أو رجلٌ ضعيفُ الحجة، شاكٌّ في قيمةِ قوله،أو قيمة شخصه؛فيحاول إخفاء هذا الشك والضعفِ بالحدّة والغلظة والزعاق!.وفي الأمر بالغض من الصوت نهي عن رفعه لغير حاجة،والقرآنُ يرذلُ هذا الفعل بصورة منفرة محتقرة،صورة بشعة،فيؤمى بتشبيه ذلك بصوت الحمير؛فيقول)إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)وهو تصوير يدعو إلى السخرية،مع النفور والبشاعة!!
وهذه الوصايا الأخيرة من النهي عن تصعيرِ الخد للناس، وعن المشي في الأرض مرحاً، ومن الأمر بالقصد في المشي،والغض من الصوت،ما يدلنا على عناية القرآن بتكوين شخصية صحيحة للمسلم، وأنَّ شخصيةَ المرءِ الظاهرةِ للعيان،الملحوظة في حركة مشيته، ودرجةِ نبرة صوته، تكشف كثيراً عن طبيعته النفسية..نسأل الله أن يرقِّق قلوبَنا لخشيته ويُهذَبَ أخلاقَنا لعباده ويجنبنا الكفر والفسوق والعصيان ..أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
نستلهم إخوتي من وصايا لقمان لابنه واهتمام القرآن بها أهمية الواجب الملقى على الآباء في نصح أولادهم وتوجيههم بل وموعظتهم بتأصيل الدين وتعاليمه فيهم وغرس الأخلاق وحسن التعامل لديهم فهذه أمانة عظمى على الوالدين وإهمالها شنيع فما نراه من تصرفات في مجتمعاتنا وتطاولٍ على ثوابت الدين والأخلاق واستهتار الأبناء بالأنظمة وتساهل البنات بالحجاب ونبذهن للحياء يحتاج لتعاون الوالدين ونصحهم وتوجيههم فالدولة قائمة بواجبها بتطبيق الأنظمة ولكن أين دورك أنت أيها الأب أيتها الأم في التوجيه والنصح والإعداد والتربية هؤلاء أولادك يمثلونك فاهتم بتربيتهم وحمايتهم من الشرك والعقوق والفتن والفسوق وأعدّهم ليكونوا صالحين لدينهم مهتمين بأمتهم بانين لأوطانهم حامين لثوابت أخلاقهم تسعد بهم دنيا وآخرة..اللهم أصلح لنا أولادنا واجعلهم هداة مهتدين صالحين مصلحين..
كم تعجب ممن يطوِّف ببصره هنا وهناك،يتتبع مقالاتِ،يقتص أثرها ويتقصاها،وعقله وقلبه منشغل بوسائل التواصل يتتبع غرائبها ثم لا يعطف ببصره على ما في كتاب ربه من حِكمٍ ووصايا، ومواعظَ وآدابٍ، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد..ولو تملَّاه وعطف ببصره إليه، وتتبَّع آياته يتدبرها لاستخراجِ حكماً وعبراً..
فما أحرى بالمؤمن،أن يجعل للقرآن نظراً وتدبراً وقراءةً تطبقاُ لأوامره واجتناباً لنواهيه وتصديقاً لمحكمة وإيماناً بمتشابهه من القرآن يبدأ، وإليه يعود..ومن عجائب القرآن الربانية ما ذكره الله على لسان عبده الصالحِ لقمانَ،سبع آيات ساقها الله في كتابه ليقرِّرَها على عباده كموقف أبوي يعظ ابنه..وهي وصايا عظيمة لرجلٍ حكيمٍ جامعة نافعة،وسميت السورة بلقمان لأنها احتوت وصاياه لابنه ولقمان كان رجلا صالحا لم يكن نبيا في قول أكثر أهل العلم،كان من بلاد النوبة جنوب مصر،أتاه الله الحكمة،بحسنِ الفهمِ والإصابةِ في القول والعمل،ومعرفةُ الحقائق على ما هي عليه،والحكمةُ منحةٌ وهبة عظيمة يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من عباده، كما قال عز وجل (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)
كان لقمان حكيماً صالحاً (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)فشك النعم ومعرفة قدرها حكمة..
ثم تأتي تلك الوصايا الحكيمة،ولو لم تكن وصايا ربانية حكيمة لما كانت جديرةً بالذكر في كتاب الله العظيم..(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)الوالد هنا يريد لولده الخير والنصيحة من الوالد لولده مُبرأةٌ من كل شبهة،موعظة صادقة بدأها بتودّد(يابني)ثم بدأها بالتوحيد دعوة الأنبياء والمرسلين لأقوامهم أن اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ثم يُبيّنُ ويؤكّدُ بأن الشركَ ظلمٌ عظيم (ومهما ظلم المرء نفسه،فأسوء الظلم الشركُ بالله،والله يغفر للعباد كل شيء إلا الشرك به!!]في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال..لما نزل قول الله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)شقَّ ذلك على الصحابة فقالوا.. يا رسول الله،أينا لم يظلم نفسه؟فقال– صلى الله عليه وسلم–..«إنه ليس بذاك، ألا تسمعوا قول لقمان(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)] (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)بعض الناس يقع بالشرك من حيث لا يدري مخالفاً للفطرة إما بشعوذة أو دجل أو تعظيم وصرف العبادة لغير الله..من قبورٍ وأولياء..
ويمضي لقمان بموعظة ولده(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)إنه تقريرٌ لحقيقة يوقن بها كلُّ مؤمن..يذكّرُ بها لقمانُ ابنَه؟!من أجلِ أن يُعظِّمَ في قلبه خشيةَ الله ومراقبته وتقواه، فهناك حساب دقيق،وجزاء عادل،فلا تظلم نفس شيئاً)وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا، وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)ويعرض لقمان لابنه في صورة مؤثرةٍ يرجف لها الفؤاد، وهو يتفكر في علم الله الشامل الدقيق..وبروعة تعبيرٍ يكشف عن دِّقةِ علمِ الله وقدرتِه سبحانَه؛بعضُنا ربما لا يدرك المعنى الدقيق لحبة الخردل؛وهي جرمٌ صغيرٌ متضائل في الصِغَر.ضائعةٌ في كونٍ فسيح لا وزن لها ولا قيمة،تخيّلها في صخرة،لا يعلمُ الناظرُ ما فيها ولا ما تحتَها،أوهي سابحةٌ في ملكوت السماوات،في فضاء عجيب،أو ضائعةٌ بين ثرى الأرض وحصاها..فمهما تكن يأت بها الله!فعلمُه يلاحقُها،وقدرتُه لاتُفلتها..إن الله لطيف خبير..دعوةٌ للقلب أن يؤمن ثم يخشع وينيبَ للطيفِ،الخبيرِ بخفايا الغيوب..وفي تذكير لقمانَ لابنه بهذه الحقيقة تربيةٌ له على مراقبة الله في أعماله كلها، في سرِّهِ وعَلَنِه،وفي إقامتِه وظَعْنِه؛لتكونَ مراقبةُ الله ضابطة لدينه وسلوكه وأخلاقهِ مع الناس،وفي خاصة نفسه..واليوم إخوتي مع اتساع التقنية ووسائل التواصل التي فعلاً لا يمكن مراقبتها لا نملك إلا زرع الرقابة الذاتية في نفوس الناس وأسرنا وأولادنا..كلٌّ رقيبٌّ على نفسه فيما يفعل ويتق الله في دينه وخُلِقه وبأن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك..
ثم يمضي لقمان في وصاياه لولده، فيأمره بأعظم ركن بعد التوحيد،(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ) وليست الصلاة مجرد الأتيان بحركاتها وسكناتها،بل لا بد من إقامة أركانها، وشروطها، وواجباتها، والمحافظة عليها في وقتها..واحرصوا إخوتي على أولادكم بالصلاة رغم تقصيرهم فإنها عبادة لله تنهاهم عن الفحشاء والمنكر..وهي تشهد الآن ضعفاً بأدائها من البعض!!
وينتقل لقمانُ في وصاياه لولده من علاقته بربه إلى علاقته بالناس،فيوصيه بمخالطتهم والصبرِ على أذاهم، والسعيِ للتأثير فيهم، والإصلاحِ من شأنهم؛والمشاركة بالخير معهم فهو لا يريد من ولده أن يعيش في عزلة عن الناس، ولو في صومعة يتحنّث فيها لربه(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) ثم يصبرُ على ما يصيبه(وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)ليُشعرَه أن من تصدَّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو سيلقى أذىً كثيراً،تمتد به الألسنةُ أو الأيدي،وأن الصبر على ذلك مِنْ عزمِ الأمور[وما أعطي عبدٌ عطاءً أوسع من الصبر]..بعضنا اليوم مع تنوع المنكرات إما أن يصاب باليأس أو يتأثر بما يقع وهذا غير صحيح فلا بد من تأثر القلب لما تراه العين أو تسمعه الأذن من منكرات فذلك أضعف الإيمان وليس وراءه حبة خردلٍ من إيمان..
وينصح لقمانُ ابنه بصدق ليذكِّره بآدابٍ أخرى لا مندوحة له عنها حينَ يُخالطُ الناس،فيذكِّره بما يحبّبه إليهم،ويجعلُ أمرَه ونهيَه وإصلاحَه مَحلَّ القبولِ الحسنِ عند الناس(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا..إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)وكأننا بلقمان الحكيم خشي على ولده وهو يقوم بمهمة الإصلاح في مجتمعه،أنه متى شعر بصلاحه في نفسه،ومهمة إصلاح غيره أن يبعثه ذلك على العجب والتعالي عليهم،فيذكِّرُه لقمان الحكيم بأن الدعوةَ إلى الخير لا تُجيزُ له التعاليَ على الناس؛ولا التطاولَ عليهم..ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بلا دعوةٍ للخير أقبحَ وأرذلَ(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)
وتصعيرُ الخَدِّ للناس يُفهمُ منه التكبر عليهم واستحقارُهم،وهذه رسالة لمن نراهم يحتقرون الفقراء أو العمال فكيف بمن ينهرونهم ويؤذونهم عياذاً بالله ثم يقول(ولا تمشِ في الأرض مَرَحَاً)وهو المشي في تخايل وعُجبٍ بالنفس،وقلةِ مبالاة بالناس؛وهي حركة كريهة يمقتها الله، ويمقتها الخلق بفطرتهم. إن الله لا يحب كل مختال فخور..
والنهي عن مشية المرح فيه إيحاء بالمِشْيَة المعتدلة القاصدة،فأمره(واقصد في مشيك)] والقصد هو التوسط بين العلو والتقصير،قيل لعمر رضي الله عنه إنك سريع المشية فقال وقد قيل له مثل هذا.. أنجحُ للحاجةِ،وأبعدُ من الكبر..وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب، فالاسراع المذموم إنما هو الإسراع الذي يخل بالوقار.والمشي المأمور به هو مشي الوقار والسكينة، وهو مشي وسطٌ بين مشيين مذمومين..مشي الخفة والطيش، ومشيِ الكبر والخيلاء..فياله من دينٍ يعلّمنا ويؤدبنا حتى في مشينا وحركتنا..
وهاهنا رسالة مستفادة لكل من يتخايلون ليس بمشيهم فقط بل بإسرافهم ومفاخرتهم ومهايطهم ويصورون ذلك وينشرونه نقول لهم(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)فاكفونا شرَّ إسرافكم ومفاخرتكم وعرضها على الناس للتباهي!!
وبعد ذلك يأمر لقمان ولدَه بالاغضاضِ من الصوت واغضض من صوتك؛إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس،واطمئنانُ إلى قوة حجته،وسلامة منطقه،وصدق حديثه؛وما يزعق في جداله وحواره،أو يغلظُ في خطابه،إلا سيءُ الأدب،أو رجلٌ ضعيفُ الحجة، شاكٌّ في قيمةِ قوله،أو قيمة شخصه؛فيحاول إخفاء هذا الشك والضعفِ بالحدّة والغلظة والزعاق!.وفي الأمر بالغض من الصوت نهي عن رفعه لغير حاجة،والقرآنُ يرذلُ هذا الفعل بصورة منفرة محتقرة،صورة بشعة،فيؤمى بتشبيه ذلك بصوت الحمير؛فيقول)إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)وهو تصوير يدعو إلى السخرية،مع النفور والبشاعة!!
وهذه الوصايا الأخيرة من النهي عن تصعيرِ الخد للناس، وعن المشي في الأرض مرحاً، ومن الأمر بالقصد في المشي،والغض من الصوت،ما يدلنا على عناية القرآن بتكوين شخصية صحيحة للمسلم، وأنَّ شخصيةَ المرءِ الظاهرةِ للعيان،الملحوظة في حركة مشيته، ودرجةِ نبرة صوته، تكشف كثيراً عن طبيعته النفسية..نسأل الله أن يرقِّق قلوبَنا لخشيته ويُهذَبَ أخلاقَنا لعباده ويجنبنا الكفر والفسوق والعصيان ..أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
نستلهم إخوتي من وصايا لقمان لابنه واهتمام القرآن بها أهمية الواجب الملقى على الآباء في نصح أولادهم وتوجيههم بل وموعظتهم بتأصيل الدين وتعاليمه فيهم وغرس الأخلاق وحسن التعامل لديهم فهذه أمانة عظمى على الوالدين وإهمالها شنيع فما نراه من تصرفات في مجتمعاتنا وتطاولٍ على ثوابت الدين والأخلاق واستهتار الأبناء بالأنظمة وتساهل البنات بالحجاب ونبذهن للحياء يحتاج لتعاون الوالدين ونصحهم وتوجيههم فالدولة قائمة بواجبها بتطبيق الأنظمة ولكن أين دورك أنت أيها الأب أيتها الأم في التوجيه والنصح والإعداد والتربية هؤلاء أولادك يمثلونك فاهتم بتربيتهم وحمايتهم من الشرك والعقوق والفتن والفسوق وأعدّهم ليكونوا صالحين لدينهم مهتمين بأمتهم بانين لأوطانهم حامين لثوابت أخلاقهم تسعد بهم دنيا وآخرة..اللهم أصلح لنا أولادنا واجعلهم هداة مهتدين صالحين مصلحين..