الْحَمْدُ لله رب العالمين، رفعَ عن عبادِه الحرجَ والمشقَّةَ،وأمرَ بإعطاءِ كلِ ذي حقٍ حقَّه،وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ،وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ أمر بوضع الحق في نصابه،صلِّى الله وسلَّم وبارِك عليه، وَعَلَى آلِهِ وأصحابه وسلم تسليماً..أَمَّا بَعْدُ، فيا أَيها المسلمون..اتقوا الله واعلموا..أنَّ الحقوقَ في الإسلامِ مُصانَةٌ، والمؤمنُ مَن عَرَف الحقَّ والتزمَ بهِ وصانَه، فما أرسلَ اللهُ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ إلاَّ لإحقاقِ الحقِّ وإقامَةِ العدلِ؛ فلا يُضَيَّعُ على صاحبِ حقٍّ حقَّه،ويؤدَّي بل يجبُ أداؤُه لَهُ بكلِّ أمانةٍ ودقَّةٍ، وبذلكَ يعُمُّ الحبُّ وينتشرُ الصفاءُ، وتنعدمُ البغضاءُ وينمحي الجفاءُ،أليس اللهُ تعالى يقول(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)والإنسانُ قائمٌ بدينه سعيدٌ في نفسه وأسرته ومُنتجٌ لوطنهِ ومجتمعِه إذا توفّرَت له جميعُ عناصرِ النموِّ،ومنها الحقوقُ والوجباتُ المتبادلةُ له وعليه،وأولُ الحقوقِ الواجبة على العبد حقُّ الله تعالى..فإنَّ من ضيَّع حقوقَ ربِّ العالمين فالضرر عليه دنيا وآخرة،لأن الله غنيٌّ عن العالمين(إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)وقال تعالى(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)وحقُّ الربِّ هو التوحيد،وعدَ الله عليه أعظمَ الثواب،(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ*هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ)ومن ضيَّع حقَّ الله عز وجل بالشرك به،واتخاذ وسائط من دون الله يعبُدهم ويدعُوهم لكشف ضُرٍ وكُربات أو قضاء حاجات،ويتوكَّل عليهم،فقد خابَ وخسِرَ وأشركَ،وضلَّ سعيُه،فلا يقبلُ الله منه عدلاً ولا فِدية،ويُقال له ادخل النار مع الداخلين،إلا إن تاب ووَّحد الله بالحديث(يُقال للرجل من أهل النار:لو أن لك ما في الأرض هل تفتدي به من النار؟فيقول:نعم..فيُقال له:قد أُمِرتَ بما هو أيسرُ من ذلك،ألاَّ تُشرِك بالله شيئًا)رواه البخاري وحقوق العباد بينهم مكفولة لكل أحد ولا تتوقَّفُ الحياةُ على نَيل الإنسان حقوقَه الواجِبة له، وعند الله تجتمِعُ الخُصوم، فيُعطِي اللهُ المظلومَ حقَّه ممن ظلمَه وانتقَصَ حقَّه وضيَّعه..وفي طليعةِ الحقوقِ التي ضمِنَهَا الإسلامُ للإنسانِ حقُّ الحياةِ،فهذا حقُّ مُصَانٌ ومكفولٌ لكلِّ إنسانٍ،أيَّاً كان لونه وجنسه أو لسانٍ،فالاعتداء على هذا الحقِّ جرمٌ شنيعٌ،وتصرّفٌ مُرِيعٌ وسلوكٌ جدُّ فظِيع،واعلموا أنَّ قتلَ نفسٍ واحدةٍ أو المشاركةُ به هو كقتلِ الناسِ جميعاً(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً(لذلك حرَّمَ الإسلامُ الاعتداءَ على حقِّ حياةِ الآخرينَ،بل حَرَّمَ الاعتداءَ على الَّنفْسِ،فقاتلُ نفسِه خَسِرَ دنياهُ وأُخرَاه وذلكَ خسرانٌ مبينُ،فاللهَ حرَّمَ عليهِ الجنَّةَ،وجعَلَ النارَ مثواهُ ومأواه،(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً(،وكما أنَّ للروحِ حقَّها فللجسدِ حقُّه كذلك،ومن المهم أن يُوفَّرَ للإنسان حياةٌ كريمة بإعطائه حقوقه التي هي له كلها وعدم التجاوز عليها والظلم بها فالله خلق البشر أحراراً متساوين[فكلُّ المسلمِ على المسلمِ حرام دمُه ومالُه وعرضُه]وحقوقُ الحياة في الإسلام كحقَّ العرضِ والمالِ بعدم التعدّي عليهما..فلا يُؤذى أحد بلا سبب
أيٌّها المسلمون:حقوقُ العبادِ أمرُها شديد، قال عبدُ الله ابن الزبير رضي الله عنهما:لما نزلَ قولُ الله(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُم تَختَصِمُونَ)قالوا يا رسولَ الله:أيُكرَّرُ علينا ما يكونُ بيننا مع خواصِ الذنوب،قال:نعم ليُكرَرَنَّ عليكم حتى يُرَدَّ إلى كلِ ذِي حقٍّ حقه، قال الزبير:واللهِ إنَّ الأمرَ لشديد)وكتبَ رجلٌ لابن عمرٍ رضي الله عنهما أن اكتب إليَّ بالعلمِ كله، فكتبَ إليه(إنَّ العلمَ كثيرٌ ولكن إن استطعت أن تلقى اللهَ خفيفَ الظهرِ من دماءِ الناسِ، خميصَ البطنِ من أموالهم، كافَ اللسانِ عن أعراضهم، لازمًا لأمرِ جماعتهم فافعل)قال صلى الله عليه وسلم(الدَّوَاوِينُ عِندَ اللَّهِ عز وجل ثَلاثَةٌ:دِيوَانٌ لا يَعبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيئًا،وَدِيوَانٌ لا يَترُكُ اللَّهُ مِنهُ شَيئًا،وَدِيوَانٌ لا يَغفِرُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَغفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّركُ بِاللَّهِ،ثم قرأ(إِنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ)وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَعبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيئًا، فَظُلمُ العَبدِ نَفسَهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ، مِن صَومِ يَومٍ, تَرَكَهُ أَو صَلَاةٍ, تَرَكَهَا، فَاللَّهُ عز وجل يَغفِرُ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزُ إِن شَاءَ وديوانُ ظلمِ العِبَادِ بَعضِهِم بَعضًا له القِصَاصُ لا مَحَالَةَ)وحقوقُ العبادِ مبنيةٌ على المُشاحَّة،وحقوقُ اللهِ مبنيةٌ على المسامحةِ،عدا الإشراكُ به سبحانه قال صلى الله عليه وسلم(يقتص الخلقُ بعضهم من بعض حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلحَاءِ التي ليس لها قرون مِن الشَّاةِ القَرنَاءِ))رواه مسلم
فإن كانَ عندكَ مظالمُ لغيرك، أو حقوقٌ عليك فلتتحلَّلْ منها اليومَ قبلَ العرضِ على الحكَمِ العدل، الذي لا يَظلمُ الناسُ شيئاً، ولكنَّ الناسَ أنفسهم يظلمُون.قال صلى الله عليه وسلم(مَن كَانَت مَظلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِن عِرضِهِ أَو شَيءٍ,فَليَتَحَلَّلهُ مِنهُ اليَومَ قَبلَ أَن لا يَكُونَ دِينَارٌ ولا دِرهَمٌ،إِن كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنهُ بِقَدرِ مَظلَمَتِهِ،وَإِن لَم تَكُن لَهُ حَسَنَاتٌ،أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيهِ)رواه البخاري.فليحذرِ المسلمُ والمسلمةُ من الظلمِ، فإنَّ الظلمَ ظُلماتٌ يومَ القيامة.
عبادَ اللهِ إنَّ منَ حقوقِ العباد حقَّ العِرضِ؛فالخوضُ بأعراضِ الناسِ جريمةٌ نكراءُ وفعلةٌ شنعاءُ، وقد أكّدَ صلى الله عليه وسلم ذلك ووثَّقَه،وثبَّتَه وحقَّقَهُ،بأعظم خطبةٍ في الحجِ(إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحرمةِ يومِكم هذا،في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا، ألا هل بلَّغْتُ؟)واستطالَةُ المرءِ في عِرْضِ أَخيهِ واتهامُه وتصنيفهُ وغيبتُه..إثمٌ وبهتانٌ عظيمٌ،فتجدُ بعضَهم يُصلِّي ويتورعُ عن أكل الحرام لكنَّ حقوقَ الناسِ عنده وأعراضهم يَنالُ منها!!يقول صلى الله عليه وسلم- لأصحابِه:إن الربا عند اللهِ؟عندَ اللهِ استحلالُ عرضِ امرئٍ مُسلِمٍ))،ثم قرأَ(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً(
وهناك حقوق الوالدين ببرهما وذوي القرابة بصلة الرحم معهم وحق ذي الجوار والتعامل الحسن مسلماً أو غير مسلم(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)قال صلى الله عليه وسلم(واللهِ لا يؤمنُ،واللهِ لا يؤمنُ، واللهِ لا يؤمنُ،قيل:مَنْ يا رسولَ اللهِ؟قال:الذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه)ومِنَ الذين يجبُ إعطاؤُهم حقوقَهم العمالُ وأصحابُ العملِ،وكما لصاحب العمل حق فللعامل الأجرة على ما عمل حقٌّ يجبُ صيانَته وتلزمُ حمايتَه وهناك حقوقٌ بين الأزواج وداخلَ الأسرة(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)وحقوقُ التعليمِ والصحةِ والعيش الكريم..وإنَّ المجتمعَ الذي يأْمنُ فيه كلُّ إنسانٍ على حقِّه مجتمعٌ يعملُ بهمَّةٍ وإخلاصٍ ونشاطٍ وحيويةٍ،وفي ظلالِ ذلك يترسخُ حُبُّ وإخاءُ،وتنمحي أثرةُ وأنانيةُ،ويزدهرُ الاقتصادُ ويعمُّ الرخاءُ، ويصبحُ الجميعُ آمنينَ، ويَمْسُونَ مُطْمَئِنينَ، وينامونَ متفائلينَ، فلا مكانَ للقلقِ، ولا سببَ يدعو إلى أَرَقٍ. فالمرءُ إذا اطمأنَّ على وصولِ حقوقِه إليه انطلقَ في مناكِبِ الأرضِ يُعَمِّرُ ولا يُدَمِّرُ، ويَبني ولا يَهْدِمُ،ينفعُ نفسه وغيرَه، يدفعُه التفاؤلُ والأملُ لقولِ الخيرِ وإصلاحِ العملِ.فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ،وأدّوا لكلِّ ذي حَقٍّ حقَّه، تَسْعَدُوا ويَسْعَدَ غيرُكم، ويَعُمّ نفعُكم وخيرُكم..وأدٌّوا الحقوقَ التي عليكم، واعتبروا بعملِ الصالحينَ قبلَكم..فمن الظُلمِ وتجاوزِ الحدودِ في الحقوقِ أكلُ أموالِ الناسِ بالباطلِ، كالسرقةِ،والرشوة والاختلاس والفساد وسوء الأداء الوظيفي الذي هو حق للمراجع واستغلال المال العام وجحدِ العاريةِ،وأكلِ مالِ اليتيمِ ظُلمًا،وغصبِ الأرضِ وأخذها بغيرِ حقٍّ,قال صلى الله عليه وسلم (مَن ظَلَمَ قِيدَ شِبرٍ, مِن الأَرضِ طُوِّقَهُ مِن سَبعِ أَرَضِينَ)رواهُ البخاري فقيْدُ شبرٍ من الأرض،إشارةٌ إلى استواءِ القليلِ والكثيرِ في الوعيد. لقد كانَ السلفُ الصالحِ عليهم رحمةُ الله يحذرونَ من حقوقِ العبادِ،ونهب المال واستغلال المنصب ويخافُونَ من سُوءِ الحسابِ،وعن عوفِ بن حارثِ قال سمعتُ عائشةَ تقولُ: دعتني أمٌّ حبيبةَ عندَ موتها فقالت: قد كانَ يكونُ بيننا ما يكونُ بين الضرائرِ، فغفرَ اللهُ لي ولكِ ما كانَ من ذلك، فقلتُ: غفرَ الله لكِ كلَهُ وحَلَلَكِ من ذلك، فقالت سررتِني سركِّ الله، وأرسلت إلى أمِّ سلمة، فقالت لها مثلَ ذلك.رضي الله عنهم أجمعين وعن عطاءِ بن أبي رباحٍ رحمه الله قال: حدثتني فاطمةُ امرأةُ عُمرَ بنِ عبدِ العزيز أنَّها دخلت عليه، فإذا هُو في مُصلاهُ، يدُه على خدهِ، سائلةٌ دموعُهُ،فقلتُ يا أميرَ المؤمنين، ألشيءٍ, حدث؟ قال يا فاطمة: إني تقلدتُ أمرَ المسلمين، فتفكرتُ في الفقيرِ الجائع، والمريضِ الضائع، والعاري المجهود، والمظلومِ المقهور، والغريبِ المأسور، والكبيرِ، وذي العيالِ، في أقطارِ الأرضِ، فعلمت أنَّ ربِّي سيسألُني عنهم، فرحمتُ نفسي وبكيت عليه رحمةُ الله ورضوانُه..اللهم أنجنا من حقوق العباد ومن سلم من حقوقهم فقد نجى وسلم ..أقول ما تسمعون ..
الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
أيٌّها المسلمُ:عليكَ أن تتداركَ أمركَ قبلَ حلولِ أجلكَ،وذلكَ بردِّ الحقوقِ إلى أهلِها،أو باستعطافِهم للحصولِ على مُسامحتِهم وعفوهم،قبلَ يومِ الجزاءِ والقصاص،فإن كل شيءٍ يمكن أن يغفره الله لك ما عدا الشرك وحقوق العباد فاحرص أن تكون سالماً منها ما استطعت وإن تورطت بها فأخذت حقاً ليس لك فردَّه بالطريقة المناسبة في الدنيا حيث فيها المجال واستسمح منهم في مالٍ وكلامٍ أو غيبة ونميمة وأكثر من الدعاء لهم واستغفار الله عما حصل نسألُ اللهَ - تعالى -أن يكفيَنا بحلالهِ عن حرامه، وأن يُغنيَنا بفضلهِ عمن سِواه، وأن يُعيذَنا من شرورِ أنفسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا. اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت وأبعد عنا سيئها اللهم وفق ولاة أمورنا لكل ما فيه الخير والصواب وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة واكف بلادنا وبلاد المسلمين الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن
أيٌّها المسلمون:حقوقُ العبادِ أمرُها شديد، قال عبدُ الله ابن الزبير رضي الله عنهما:لما نزلَ قولُ الله(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُم تَختَصِمُونَ)قالوا يا رسولَ الله:أيُكرَّرُ علينا ما يكونُ بيننا مع خواصِ الذنوب،قال:نعم ليُكرَرَنَّ عليكم حتى يُرَدَّ إلى كلِ ذِي حقٍّ حقه، قال الزبير:واللهِ إنَّ الأمرَ لشديد)وكتبَ رجلٌ لابن عمرٍ رضي الله عنهما أن اكتب إليَّ بالعلمِ كله، فكتبَ إليه(إنَّ العلمَ كثيرٌ ولكن إن استطعت أن تلقى اللهَ خفيفَ الظهرِ من دماءِ الناسِ، خميصَ البطنِ من أموالهم، كافَ اللسانِ عن أعراضهم، لازمًا لأمرِ جماعتهم فافعل)قال صلى الله عليه وسلم(الدَّوَاوِينُ عِندَ اللَّهِ عز وجل ثَلاثَةٌ:دِيوَانٌ لا يَعبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيئًا،وَدِيوَانٌ لا يَترُكُ اللَّهُ مِنهُ شَيئًا،وَدِيوَانٌ لا يَغفِرُهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَغفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّركُ بِاللَّهِ،ثم قرأ(إِنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ)وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لا يَعبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيئًا، فَظُلمُ العَبدِ نَفسَهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ، مِن صَومِ يَومٍ, تَرَكَهُ أَو صَلَاةٍ, تَرَكَهَا، فَاللَّهُ عز وجل يَغفِرُ ذَلِكَ، وَيَتَجَاوَزُ إِن شَاءَ وديوانُ ظلمِ العِبَادِ بَعضِهِم بَعضًا له القِصَاصُ لا مَحَالَةَ)وحقوقُ العبادِ مبنيةٌ على المُشاحَّة،وحقوقُ اللهِ مبنيةٌ على المسامحةِ،عدا الإشراكُ به سبحانه قال صلى الله عليه وسلم(يقتص الخلقُ بعضهم من بعض حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلحَاءِ التي ليس لها قرون مِن الشَّاةِ القَرنَاءِ))رواه مسلم
فإن كانَ عندكَ مظالمُ لغيرك، أو حقوقٌ عليك فلتتحلَّلْ منها اليومَ قبلَ العرضِ على الحكَمِ العدل، الذي لا يَظلمُ الناسُ شيئاً، ولكنَّ الناسَ أنفسهم يظلمُون.قال صلى الله عليه وسلم(مَن كَانَت مَظلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِن عِرضِهِ أَو شَيءٍ,فَليَتَحَلَّلهُ مِنهُ اليَومَ قَبلَ أَن لا يَكُونَ دِينَارٌ ولا دِرهَمٌ،إِن كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنهُ بِقَدرِ مَظلَمَتِهِ،وَإِن لَم تَكُن لَهُ حَسَنَاتٌ،أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيهِ)رواه البخاري.فليحذرِ المسلمُ والمسلمةُ من الظلمِ، فإنَّ الظلمَ ظُلماتٌ يومَ القيامة.
عبادَ اللهِ إنَّ منَ حقوقِ العباد حقَّ العِرضِ؛فالخوضُ بأعراضِ الناسِ جريمةٌ نكراءُ وفعلةٌ شنعاءُ، وقد أكّدَ صلى الله عليه وسلم ذلك ووثَّقَه،وثبَّتَه وحقَّقَهُ،بأعظم خطبةٍ في الحجِ(إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحرمةِ يومِكم هذا،في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا، ألا هل بلَّغْتُ؟)واستطالَةُ المرءِ في عِرْضِ أَخيهِ واتهامُه وتصنيفهُ وغيبتُه..إثمٌ وبهتانٌ عظيمٌ،فتجدُ بعضَهم يُصلِّي ويتورعُ عن أكل الحرام لكنَّ حقوقَ الناسِ عنده وأعراضهم يَنالُ منها!!يقول صلى الله عليه وسلم- لأصحابِه:إن الربا عند اللهِ؟عندَ اللهِ استحلالُ عرضِ امرئٍ مُسلِمٍ))،ثم قرأَ(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً(
وهناك حقوق الوالدين ببرهما وذوي القرابة بصلة الرحم معهم وحق ذي الجوار والتعامل الحسن مسلماً أو غير مسلم(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)قال صلى الله عليه وسلم(واللهِ لا يؤمنُ،واللهِ لا يؤمنُ، واللهِ لا يؤمنُ،قيل:مَنْ يا رسولَ اللهِ؟قال:الذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه)ومِنَ الذين يجبُ إعطاؤُهم حقوقَهم العمالُ وأصحابُ العملِ،وكما لصاحب العمل حق فللعامل الأجرة على ما عمل حقٌّ يجبُ صيانَته وتلزمُ حمايتَه وهناك حقوقٌ بين الأزواج وداخلَ الأسرة(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)وحقوقُ التعليمِ والصحةِ والعيش الكريم..وإنَّ المجتمعَ الذي يأْمنُ فيه كلُّ إنسانٍ على حقِّه مجتمعٌ يعملُ بهمَّةٍ وإخلاصٍ ونشاطٍ وحيويةٍ،وفي ظلالِ ذلك يترسخُ حُبُّ وإخاءُ،وتنمحي أثرةُ وأنانيةُ،ويزدهرُ الاقتصادُ ويعمُّ الرخاءُ، ويصبحُ الجميعُ آمنينَ، ويَمْسُونَ مُطْمَئِنينَ، وينامونَ متفائلينَ، فلا مكانَ للقلقِ، ولا سببَ يدعو إلى أَرَقٍ. فالمرءُ إذا اطمأنَّ على وصولِ حقوقِه إليه انطلقَ في مناكِبِ الأرضِ يُعَمِّرُ ولا يُدَمِّرُ، ويَبني ولا يَهْدِمُ،ينفعُ نفسه وغيرَه، يدفعُه التفاؤلُ والأملُ لقولِ الخيرِ وإصلاحِ العملِ.فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ،وأدّوا لكلِّ ذي حَقٍّ حقَّه، تَسْعَدُوا ويَسْعَدَ غيرُكم، ويَعُمّ نفعُكم وخيرُكم..وأدٌّوا الحقوقَ التي عليكم، واعتبروا بعملِ الصالحينَ قبلَكم..فمن الظُلمِ وتجاوزِ الحدودِ في الحقوقِ أكلُ أموالِ الناسِ بالباطلِ، كالسرقةِ،والرشوة والاختلاس والفساد وسوء الأداء الوظيفي الذي هو حق للمراجع واستغلال المال العام وجحدِ العاريةِ،وأكلِ مالِ اليتيمِ ظُلمًا،وغصبِ الأرضِ وأخذها بغيرِ حقٍّ,قال صلى الله عليه وسلم (مَن ظَلَمَ قِيدَ شِبرٍ, مِن الأَرضِ طُوِّقَهُ مِن سَبعِ أَرَضِينَ)رواهُ البخاري فقيْدُ شبرٍ من الأرض،إشارةٌ إلى استواءِ القليلِ والكثيرِ في الوعيد. لقد كانَ السلفُ الصالحِ عليهم رحمةُ الله يحذرونَ من حقوقِ العبادِ،ونهب المال واستغلال المنصب ويخافُونَ من سُوءِ الحسابِ،وعن عوفِ بن حارثِ قال سمعتُ عائشةَ تقولُ: دعتني أمٌّ حبيبةَ عندَ موتها فقالت: قد كانَ يكونُ بيننا ما يكونُ بين الضرائرِ، فغفرَ اللهُ لي ولكِ ما كانَ من ذلك، فقلتُ: غفرَ الله لكِ كلَهُ وحَلَلَكِ من ذلك، فقالت سررتِني سركِّ الله، وأرسلت إلى أمِّ سلمة، فقالت لها مثلَ ذلك.رضي الله عنهم أجمعين وعن عطاءِ بن أبي رباحٍ رحمه الله قال: حدثتني فاطمةُ امرأةُ عُمرَ بنِ عبدِ العزيز أنَّها دخلت عليه، فإذا هُو في مُصلاهُ، يدُه على خدهِ، سائلةٌ دموعُهُ،فقلتُ يا أميرَ المؤمنين، ألشيءٍ, حدث؟ قال يا فاطمة: إني تقلدتُ أمرَ المسلمين، فتفكرتُ في الفقيرِ الجائع، والمريضِ الضائع، والعاري المجهود، والمظلومِ المقهور، والغريبِ المأسور، والكبيرِ، وذي العيالِ، في أقطارِ الأرضِ، فعلمت أنَّ ربِّي سيسألُني عنهم، فرحمتُ نفسي وبكيت عليه رحمةُ الله ورضوانُه..اللهم أنجنا من حقوق العباد ومن سلم من حقوقهم فقد نجى وسلم ..أقول ما تسمعون ..
الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
أيٌّها المسلمُ:عليكَ أن تتداركَ أمركَ قبلَ حلولِ أجلكَ،وذلكَ بردِّ الحقوقِ إلى أهلِها،أو باستعطافِهم للحصولِ على مُسامحتِهم وعفوهم،قبلَ يومِ الجزاءِ والقصاص،فإن كل شيءٍ يمكن أن يغفره الله لك ما عدا الشرك وحقوق العباد فاحرص أن تكون سالماً منها ما استطعت وإن تورطت بها فأخذت حقاً ليس لك فردَّه بالطريقة المناسبة في الدنيا حيث فيها المجال واستسمح منهم في مالٍ وكلامٍ أو غيبة ونميمة وأكثر من الدعاء لهم واستغفار الله عما حصل نسألُ اللهَ - تعالى -أن يكفيَنا بحلالهِ عن حرامه، وأن يُغنيَنا بفضلهِ عمن سِواه، وأن يُعيذَنا من شرورِ أنفسنا، ومن سيئاتِ أعمالنا. اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت وأبعد عنا سيئها اللهم وفق ولاة أمورنا لكل ما فيه الخير والصواب وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة واكف بلادنا وبلاد المسلمين الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن