الحمد لله حمدا لا يُحصى،أمَر بطاعته ونهى أن يُعصى،وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه،خيرُ مَنْ قام صلَّى،اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان صلاةً لا تعدُّ ولا تحصى..أما بعد فاتقوا الله عباد الله..
واعلموا أنَّ للقلوب مفاتح لا تُفتح إلا بها،ومن أهمّها البساطة،وأوّلُ ما يطبع في ذاكرة الإنسان عند لقائه بغيره البساطة.التي هي ضِدُّ التكلف والتصنع،وذلك حين لا يُريدُ الإنسان صاحبه به ثناءً من النَّاسِ،على أفعاله ولا مقامَ عندهم وكلُّ فاقدٍ لوصفٍ حَسَن تجدْه يُحبُّ أن يُوصَف به،فالبخيلُ يتمنى وصفَه بالكرم،والجبانُ يَهْوَى أن يُعرفَ بالشجاعة،والضعيفُ يكره وصفه بالضعف..والموظف يصف تعقيده بتطبيق النظام..والبساطةُ عكسُ ذلك؛فهي أن يبدوَ المرءُ للناس على صورته الحقيقية،بلا تزييف ولا خداع..والتكلّف بابٌ يمارسه حتمًا يصلُ به للكذبِ والرياءِ،لأنّهُ إظهارٌ لغير الحقيقة،ومن السهلِ خِداعُ بعض الناس فترة ولكنَّ المستحيلَ خداعُهم كلَّ الوقت..والتكلّفُ ضعفٌ؛لا تستطيعُ مواجهةَ الناس به فالمتكلِّفُ يتصنّعُ ما لا يحسن ويتلوّن ليرضيهم فيكرهونه..
الإنسانُ الموفَّق إخوتي هو الرضِيُّ القنوعُ،يراه الناسُ على حقيقته كما هو، دون تزويق أو تكلُّف،عرَف قدرَه قبل أن يعرفه الناسُ،سمتُه بساطةُ وسماحةُ،لا يتكلَّفُ مفقودًا ولا يبخل بموجود، يُحِبُّ أن يراه الناسُ على صورته الحقيقية،كما يراهم كذلك،لا تجدْه بليدًا يتكلَّفُ الذكاءَ،ولا بخيلًا يتكلَّف الكرمَ،ولا فقيرًا يتكلَّفُ الغِنى،يمدُّ رِجْلَيه على قدر لحافه،ويأكل مما يليه..سمحاً إذا باع واشترى وقضى واقتضى..
التكلّفُ تصنُّع وإظهارُ سلوكٍ خلاف الحقيقة، ومَنْ كان لا يغنيه ما يكفيه،فكل الأرض لا تكفيه، والتكلّفُ يكون بالمبالغة بالمظاهر والعادات والمطالبة بما يشقُّ ويصعُب في التعاملات ليصلَ بهم الأمرُ للتشبع بما لم يعُطْوا فيها ويتكلَّفون مالا يستطيعون..ولا شك أن قدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خير عباد الله وأكرمهم وأجودهم وأشجعهم لم يكن متكلِّفًا قَطُّ،ولا متصنِّعًا قطُّ،حتى في دعوته وتبليغ رسالة ربه،فكيف بعاداته وشمائله،وهو الذي قال له ربه(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)أي من المتصنعِّينَ يتكلّفُ ما لا يُحسن ويُكلّف الناس بما لا يطيقون،بل إنه رحمةٌ مهداة،ونعمةٌ مسداة،يُحلُّ لهم الطيباتِ ويُحرِّم عليهم الخبائثَ،ويضع عنهم إصرَهم والأغلالَ التي كانت عليهم..كان صلى الله عليه وسلم أبعدَ النَّاس عن التكلف حين يقول(حُرِّمَ على النارِ كُلُّ هينٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناس)وبالحديث(رجلٌ دخل الجنَّة بسماحته قاضياً ومتقاضياً)عاشَ صلى الله عليه وسلم حياته بعيداً عن تكلّفٍ يذمُّه ويحث صحابته للبعدِ عنه يقول ابن عمر رضي الله عنهما(نُهينا عن التكلف)يربيهم منذ الصغر على الابتعاد والتكلف والعيش ببساطة حتى بالعبادات نهينا عن التكلف فبالحديث(هلك المتنطعون)ولما قال يارسول الله إن شعائر الإسلام كثرت علي قال (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)
التكلُّفُ إخوتي سيءٌ كلُّه والبساطةُ سعادة،وقد أحسَن مَنْ عاش كما هو دون تزويق؛يدرك الرضا والهنا بحقيقتِه،ويكره التكلُّفَ فبعضُ الناس يَظنُّ إظهارَ حكمتِه وعلمِه باختياره أغرب الألفاظ وأعقدها،ويتكلف كثيراً بينما رسولنا صلى الله عليه وسلم كلامه سهلٌ مفهوم،يناسب المستمع، وكانَ قادرًا أن يأتيَ بأغرب الكلمات وأعقدها،فهو أفصحُ العرب،لكنه أراد البساطة في قوله؛ حتى يفهمه الكبير والصغير،والعالم والجاهل،والرجل والمرأة حتى الطفل الصغير.تقول عائشة رضي الله عنها(كان كلامه صلى الله عليه وسلم فصلاً،يفهمه كل من يسمعه) رواه أبو داود لايتقعُّر في الكلام..تقول عائشة(كان يحدثنا حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه،ولم يكن يسرد كسردكم)،أي لا يُكثر من الكلام بسرعة،فإذا تكلم كان كلامه واضحًا سهلاً مفهومًا.ويقول أنسٌ رضي الله عنه(كان يعيد الكلمة ثلاثًا لتُفْهَم عنه)رواه البخاري وهكذا الحديث النبوي مُعجزٌ يفهمه الجميع(أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)رواه الترمذي..وكذلك حين وُفق بعض المتحدثين بلغةٍ بسيطةٍ غير متكلفة تدخل قلوب السامعين مباشرة..
كما كان محمد)صلى الله عليه وسلم( يهتم أن يظهر للناس في هيئة حسنة،مع حسن الخلق والتعامل فكان يُرجِّل شعره،ويُصلح هيئته لم يأمرْ أحدًا أن يلبسَ رقيعَ الثياب والرثَّ منها؛لكي يتصنّعَ ويتكلفَ أن يبدو للناس زاهدًا أو عابدًا،فقد أحلَّ الزينةَ بما نستطيع فقال الله(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حَسَنُ السمت والمظهر،يهتمُّ بنظافة ثوبه،ويحرص على الطيب ويخرجُ للناس متعطِّرًا ذا رائحة ذكية..بلا تكلّف يُعطِّلهُ عن أداء أعماله من أجل حسن مظهره،ولا يستدينُ المال كما يفعل بعضهم لتحسين مظهره تكلفاً،وليبدوَ للناسِ من طبقةٍ غير طبقته،بل كان يتزين بالمتاح منها ثم يدَّخِرُ منها شيئًا ذا قيمة عالية لحضور المناسبات كالأعياد واستقبال وفود العرب وغيرها، يقول البراءُ بن عازب رضي الله عنه(رأيتُ النَّبيَّ في حُلَّةٍ حمراء للوفود لم أرَ شيئًا أحسن منه)متفق عليه ومن التكلف أن يتخذَ الإنسانُ ثوبًا غريبًا أو مظهراً نشازاً عن الوسط الذي يعيش فيه حتى يُشتهرَ بين الناس به،و كان محمد عليه الصلاة والسلام ينهى عن ذلك، ويقول (من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة،ثم ألهب فيه نارً)رواه أبو داوود..
كان صلى الله عليه وسلم يُرَقِّع ثوبه القديم إذا انقطع ويلبسه مرة أخرى أو يتصدق به أما التكلّفُ بالضيافة لدينا فحدّث عنها اليوم ولا حرج خاصة لدى النساء حتى ضاق الناس بالزيارات فترى المضيف يتكلّف ما لايطيق والمُستضاف يتورط بتكاليف زيارته بمبالغته حتى صارت الزيارة والضيافة عبئاً بأفعالنا!!يستدينون لمجرد إشباع رغبتهم في الظهور بمظهر الغني، وهذا ليس كرماً بل سوءُ فعلٍ وعدمُ تقديرٍ للعواقب..والأسوء أن يأتيك ضيفٌ متكلّفٌ ثقيل لا يرضى بالضيافة إلا إذا تكلَّفَ له صاحبه، وتحمَّل ما لا يطيقه، بل يُلمِّحُ أو يصرح بعضهم أن مضيفه لم يَقُمْ بحقِّه ف يالضيافة ولم يكرمه..بينما محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان بسيطًا سهلاً ضيفًا ومضيفًا،فكان وهو ضيفٌ يقبل كل دعوةٍ من صغيرٍ أو كبيرٍ،لا يشترطُ دعوة مقام عالٍ ولا صاحبِ مالٍ وفيرٍ،يقبلُ دعوةَ الحُرِّ والعبد،والغني والفقير،والمسلم وغير المسلم كذلك،يأتي إليه سلمان وهو مسترقٌّ أصلُه من فارس،بطبقٍ فيه رُطَب،هديةً،يقبلها صلى الله عليه وسلم ،وجمعَ أصحابه وقال سموا الله وكلوا –أخرجه أحمد-واستضافه جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما-وهو حرّ أنصاري،وذبح له شاة فجمع الناس وذهب إليه-أخرجه البخاري واستضافه أبو طلحة رضي الله عنه وهو سيد الأنصار فقبل دعوته وذهب إليه أخرجه البخاري واستضافه يهودي فقبل استضافته،وطعم معه خبزاً وإهالة سنخة)أي طعامًا محدودًا غير جيد أخرجه أحمد واستضافته يهودية في خيبر فقبل دعوتها،وطعم عندها شاة،وكانت مسمومة) أخرجه البيهقي مات منها أحدُ أصحابه(كان عليه الصلاة والسلام يقبلُ دعوةَ الجميع،ولم يُؤَثِّر عنده شخصُ الداعي،ولا نوع الطعام،فكان سهلاً ضيافة واستضافة،يُطعمُ من حَضَرَ من الضيوف وقت الطعام بما عنده من طعام،ولم يتكلفْ لأحدٍ أبدًا مهما كان جاءه مرةً ضيفٌ ولم يكن لديه في بيوته جميعًا طعام،فأرسل لزوجاته فلم يكن لديهنَّ طعامًا يضيفون به الضيف،فأرسل مناديًا من عندَه طعام يستضيفُ ضيفَ رسول الله؟!الله أكبر!!هذا رسول الأمة فضيَّفَهُ أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه على تمرٍ أطعموه إياه)أخرجه البخاري،إنه لم يتكلف حتى حينما لم يكن لديه طعام،ولم يعدُّها إهانةً في حقه،ولا منقصةً في قدره.يقول أبو هريرة رضي الله عنه جاء رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود أي جائع ولا أجد طعامًا فأرسل لنسائه،فقالت: يارسول الله والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال صلى الله عليه وسلم من يضيِّف هذا الليلة فقال رجل من الأنصار أنا يارسول الله فانطلق إلى رحله فقال لامرأته:أكرمي ضيف رسول الله)أخرجه البخاري..
كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم يلتقي بالناس خمس مرات يوميًّا في الصلوات الخمس،ثم يستديرُ فيستمعُ لهم،ويُكلِّمهم،ويسألُ عن أخبارهم،ويطمئنُّ على أحوالهم،ويتفقد غائبهم..وكان يذهبُ لتشييع الجنائز،فيشهدُها بنفسه،ولا يتأخّرُ عنها،إلا حين لا يعلمُ بها،وعاتبَ أصحابَه كثيراً لأنهم لم يعلموه بوفاة إمرأةً كبيرة كانت تنظف المسجد ثم ذهب لقبرها فصلّ عليها)أخرجه البخاري وبابه مفتوح للجميع ليصارحونه بكلامهم بلا تكلف هذا رسول الله..هذا رسول الله..يجلس بين أصحابه فلا يتخذ لنفسه مكانا مميزًا،ولا هيئة متميزة،بل كان يجلس مثلهم على الأرض حتى يدخل الغريب عليهم فلا يعرف أيهم رسول الله)أخرجه الطبراني ويعلَّمهم أن لافرق بين غني وفقير،ولا بين رئيس ومرؤوس.وكان يحضر للمسجد فيَهمُّونَ للقيام له تحيةً وإكرامًا،فكان ينهاهم عن ذلك-أخرجه أحمد-(وعند الطعام كان يأكل كأحدهم،فليس له مكان مخصص للطعام بل كان يقول إنما أنا عبد،آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد(أخرجه أبو يعلى في مسنده..(يأتي رجل له صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ،فَكَلَّمَهُ ، فجَعلَ ترعدُ فرائصُهُ،فقالَ لَهُ:هوِّن عليكَ،فإنِّي لستُ بملِكٍ،إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ أخرجه ابن ماجة وكان يركبُ ما تيسر له ركوبه، فركب الفرس،والناقةَ،والبغلةَ،والحمار وكان عادة يأخذ أحدًا من أصحابه معه، يركبُ خلفه، إن لم تكن معه دابة يركبُ عليها.وكان يُجالِس الناسَ،كلّ الناس، فليس له من خواصّ الأغنياء أو ذوي الهيئات جلساء،بل يُجالسُ الجميع،وأكثرهم الفقراء بل كان يقول في حديثه(اللهم!أحيني مسكينًا،وأمتني مسكينًا،واحشرني في زمرة المساكين)أخرجه الترمذي، فلا يمهَّدْ له مكانٌ قبل مجيئه،وفي سفره كان بسيطًا كما في حَضَره تمامًا، يقولُ أنسٌ بن مالك رضي الله عنه حجَّ)صلى الله عليه وسلم( على رَحْلٍ رثٍّ وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي،ثم قال اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)أخرجه ابن ماجة الله أكبر هذا رسول الله رسول الأمة وهي رسالةٌ للمتكلفين الذي يتخذون المظاهر لهم ميزة..اليوم ويتفاخرون بها..اتركوا عنكم التكلّف في حياتكم واعتمدوا البساطة في عيشكم تفلحوا وتسعدوا ..
عباد الله..إن كل ما سمعناه يحثُّنا لعدمِ التكلف فالبساطة استقرارٌ اجتماعي وهي توسّطٌ بين تكلّفٍ مفرِّطٍ والمتكلفون كلابسي أقنعة لا تدوم على وجوههم ويتعبون منها وتؤدي بهم لنقص الثقة والخوف الدائم وعدم الكلافة سببٌ لدوام التواصل في زواج أو عزاء وصلات رحم ونجاح وزيارات وما أكثر الأقارب والأصدقاء ممن أبعدهم التكلّفُ،الإسلامُ يَحضُّ على الكرم لكنه ينهى عن التكلف، ويُحب الجَمال لكنه يُبغض التصنُّعَ، والمسلمُ الواعي لا يتكلَّف ولا يكلِّف غيرَه.. نسأل الله العلي الكريم أن يوفقنا إلى ما فيه صلاح ديننا ودُنيانا، وأن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، وأن يرضى عنا..أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
أيّها المسلمون، الصوم في شهر الله المحرَّم عبادةٌ جليلة وقربة وفضيلة،قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)أخرجه مسلم ومن ذلك سنة صيام يوم عاشوراء حيث كان صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صومه ثم وجه بصيام يوم قبله أو بعده مخالفة ليهود يصومونه لأنه يوم نجّى الهب فيه موسى من فرعون وقومه واحذروا مما يعرض من رافضة في أيام عاشوراء من بدعٍ ومحدثاتٍ ضالة بتشويه للتاريخ والأمة نسأل الهم لنا ولهم الهداية وأن يكفينا شرهم ..
واعلموا أنَّ للقلوب مفاتح لا تُفتح إلا بها،ومن أهمّها البساطة،وأوّلُ ما يطبع في ذاكرة الإنسان عند لقائه بغيره البساطة.التي هي ضِدُّ التكلف والتصنع،وذلك حين لا يُريدُ الإنسان صاحبه به ثناءً من النَّاسِ،على أفعاله ولا مقامَ عندهم وكلُّ فاقدٍ لوصفٍ حَسَن تجدْه يُحبُّ أن يُوصَف به،فالبخيلُ يتمنى وصفَه بالكرم،والجبانُ يَهْوَى أن يُعرفَ بالشجاعة،والضعيفُ يكره وصفه بالضعف..والموظف يصف تعقيده بتطبيق النظام..والبساطةُ عكسُ ذلك؛فهي أن يبدوَ المرءُ للناس على صورته الحقيقية،بلا تزييف ولا خداع..والتكلّف بابٌ يمارسه حتمًا يصلُ به للكذبِ والرياءِ،لأنّهُ إظهارٌ لغير الحقيقة،ومن السهلِ خِداعُ بعض الناس فترة ولكنَّ المستحيلَ خداعُهم كلَّ الوقت..والتكلّفُ ضعفٌ؛لا تستطيعُ مواجهةَ الناس به فالمتكلِّفُ يتصنّعُ ما لا يحسن ويتلوّن ليرضيهم فيكرهونه..
الإنسانُ الموفَّق إخوتي هو الرضِيُّ القنوعُ،يراه الناسُ على حقيقته كما هو، دون تزويق أو تكلُّف،عرَف قدرَه قبل أن يعرفه الناسُ،سمتُه بساطةُ وسماحةُ،لا يتكلَّفُ مفقودًا ولا يبخل بموجود، يُحِبُّ أن يراه الناسُ على صورته الحقيقية،كما يراهم كذلك،لا تجدْه بليدًا يتكلَّفُ الذكاءَ،ولا بخيلًا يتكلَّف الكرمَ،ولا فقيرًا يتكلَّفُ الغِنى،يمدُّ رِجْلَيه على قدر لحافه،ويأكل مما يليه..سمحاً إذا باع واشترى وقضى واقتضى..
التكلّفُ تصنُّع وإظهارُ سلوكٍ خلاف الحقيقة، ومَنْ كان لا يغنيه ما يكفيه،فكل الأرض لا تكفيه، والتكلّفُ يكون بالمبالغة بالمظاهر والعادات والمطالبة بما يشقُّ ويصعُب في التعاملات ليصلَ بهم الأمرُ للتشبع بما لم يعُطْوا فيها ويتكلَّفون مالا يستطيعون..ولا شك أن قدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خير عباد الله وأكرمهم وأجودهم وأشجعهم لم يكن متكلِّفًا قَطُّ،ولا متصنِّعًا قطُّ،حتى في دعوته وتبليغ رسالة ربه،فكيف بعاداته وشمائله،وهو الذي قال له ربه(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)أي من المتصنعِّينَ يتكلّفُ ما لا يُحسن ويُكلّف الناس بما لا يطيقون،بل إنه رحمةٌ مهداة،ونعمةٌ مسداة،يُحلُّ لهم الطيباتِ ويُحرِّم عليهم الخبائثَ،ويضع عنهم إصرَهم والأغلالَ التي كانت عليهم..كان صلى الله عليه وسلم أبعدَ النَّاس عن التكلف حين يقول(حُرِّمَ على النارِ كُلُّ هينٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناس)وبالحديث(رجلٌ دخل الجنَّة بسماحته قاضياً ومتقاضياً)عاشَ صلى الله عليه وسلم حياته بعيداً عن تكلّفٍ يذمُّه ويحث صحابته للبعدِ عنه يقول ابن عمر رضي الله عنهما(نُهينا عن التكلف)يربيهم منذ الصغر على الابتعاد والتكلف والعيش ببساطة حتى بالعبادات نهينا عن التكلف فبالحديث(هلك المتنطعون)ولما قال يارسول الله إن شعائر الإسلام كثرت علي قال (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)
التكلُّفُ إخوتي سيءٌ كلُّه والبساطةُ سعادة،وقد أحسَن مَنْ عاش كما هو دون تزويق؛يدرك الرضا والهنا بحقيقتِه،ويكره التكلُّفَ فبعضُ الناس يَظنُّ إظهارَ حكمتِه وعلمِه باختياره أغرب الألفاظ وأعقدها،ويتكلف كثيراً بينما رسولنا صلى الله عليه وسلم كلامه سهلٌ مفهوم،يناسب المستمع، وكانَ قادرًا أن يأتيَ بأغرب الكلمات وأعقدها،فهو أفصحُ العرب،لكنه أراد البساطة في قوله؛ حتى يفهمه الكبير والصغير،والعالم والجاهل،والرجل والمرأة حتى الطفل الصغير.تقول عائشة رضي الله عنها(كان كلامه صلى الله عليه وسلم فصلاً،يفهمه كل من يسمعه) رواه أبو داود لايتقعُّر في الكلام..تقول عائشة(كان يحدثنا حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه،ولم يكن يسرد كسردكم)،أي لا يُكثر من الكلام بسرعة،فإذا تكلم كان كلامه واضحًا سهلاً مفهومًا.ويقول أنسٌ رضي الله عنه(كان يعيد الكلمة ثلاثًا لتُفْهَم عنه)رواه البخاري وهكذا الحديث النبوي مُعجزٌ يفهمه الجميع(أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)رواه الترمذي..وكذلك حين وُفق بعض المتحدثين بلغةٍ بسيطةٍ غير متكلفة تدخل قلوب السامعين مباشرة..
كما كان محمد)صلى الله عليه وسلم( يهتم أن يظهر للناس في هيئة حسنة،مع حسن الخلق والتعامل فكان يُرجِّل شعره،ويُصلح هيئته لم يأمرْ أحدًا أن يلبسَ رقيعَ الثياب والرثَّ منها؛لكي يتصنّعَ ويتكلفَ أن يبدو للناس زاهدًا أو عابدًا،فقد أحلَّ الزينةَ بما نستطيع فقال الله(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حَسَنُ السمت والمظهر،يهتمُّ بنظافة ثوبه،ويحرص على الطيب ويخرجُ للناس متعطِّرًا ذا رائحة ذكية..بلا تكلّف يُعطِّلهُ عن أداء أعماله من أجل حسن مظهره،ولا يستدينُ المال كما يفعل بعضهم لتحسين مظهره تكلفاً،وليبدوَ للناسِ من طبقةٍ غير طبقته،بل كان يتزين بالمتاح منها ثم يدَّخِرُ منها شيئًا ذا قيمة عالية لحضور المناسبات كالأعياد واستقبال وفود العرب وغيرها، يقول البراءُ بن عازب رضي الله عنه(رأيتُ النَّبيَّ في حُلَّةٍ حمراء للوفود لم أرَ شيئًا أحسن منه)متفق عليه ومن التكلف أن يتخذَ الإنسانُ ثوبًا غريبًا أو مظهراً نشازاً عن الوسط الذي يعيش فيه حتى يُشتهرَ بين الناس به،و كان محمد عليه الصلاة والسلام ينهى عن ذلك، ويقول (من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة،ثم ألهب فيه نارً)رواه أبو داوود..
كان صلى الله عليه وسلم يُرَقِّع ثوبه القديم إذا انقطع ويلبسه مرة أخرى أو يتصدق به أما التكلّفُ بالضيافة لدينا فحدّث عنها اليوم ولا حرج خاصة لدى النساء حتى ضاق الناس بالزيارات فترى المضيف يتكلّف ما لايطيق والمُستضاف يتورط بتكاليف زيارته بمبالغته حتى صارت الزيارة والضيافة عبئاً بأفعالنا!!يستدينون لمجرد إشباع رغبتهم في الظهور بمظهر الغني، وهذا ليس كرماً بل سوءُ فعلٍ وعدمُ تقديرٍ للعواقب..والأسوء أن يأتيك ضيفٌ متكلّفٌ ثقيل لا يرضى بالضيافة إلا إذا تكلَّفَ له صاحبه، وتحمَّل ما لا يطيقه، بل يُلمِّحُ أو يصرح بعضهم أن مضيفه لم يَقُمْ بحقِّه ف يالضيافة ولم يكرمه..بينما محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان بسيطًا سهلاً ضيفًا ومضيفًا،فكان وهو ضيفٌ يقبل كل دعوةٍ من صغيرٍ أو كبيرٍ،لا يشترطُ دعوة مقام عالٍ ولا صاحبِ مالٍ وفيرٍ،يقبلُ دعوةَ الحُرِّ والعبد،والغني والفقير،والمسلم وغير المسلم كذلك،يأتي إليه سلمان وهو مسترقٌّ أصلُه من فارس،بطبقٍ فيه رُطَب،هديةً،يقبلها صلى الله عليه وسلم ،وجمعَ أصحابه وقال سموا الله وكلوا –أخرجه أحمد-واستضافه جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما-وهو حرّ أنصاري،وذبح له شاة فجمع الناس وذهب إليه-أخرجه البخاري واستضافه أبو طلحة رضي الله عنه وهو سيد الأنصار فقبل دعوته وذهب إليه أخرجه البخاري واستضافه يهودي فقبل استضافته،وطعم معه خبزاً وإهالة سنخة)أي طعامًا محدودًا غير جيد أخرجه أحمد واستضافته يهودية في خيبر فقبل دعوتها،وطعم عندها شاة،وكانت مسمومة) أخرجه البيهقي مات منها أحدُ أصحابه(كان عليه الصلاة والسلام يقبلُ دعوةَ الجميع،ولم يُؤَثِّر عنده شخصُ الداعي،ولا نوع الطعام،فكان سهلاً ضيافة واستضافة،يُطعمُ من حَضَرَ من الضيوف وقت الطعام بما عنده من طعام،ولم يتكلفْ لأحدٍ أبدًا مهما كان جاءه مرةً ضيفٌ ولم يكن لديه في بيوته جميعًا طعام،فأرسل لزوجاته فلم يكن لديهنَّ طعامًا يضيفون به الضيف،فأرسل مناديًا من عندَه طعام يستضيفُ ضيفَ رسول الله؟!الله أكبر!!هذا رسول الأمة فضيَّفَهُ أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه على تمرٍ أطعموه إياه)أخرجه البخاري،إنه لم يتكلف حتى حينما لم يكن لديه طعام،ولم يعدُّها إهانةً في حقه،ولا منقصةً في قدره.يقول أبو هريرة رضي الله عنه جاء رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود أي جائع ولا أجد طعامًا فأرسل لنسائه،فقالت: يارسول الله والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال صلى الله عليه وسلم من يضيِّف هذا الليلة فقال رجل من الأنصار أنا يارسول الله فانطلق إلى رحله فقال لامرأته:أكرمي ضيف رسول الله)أخرجه البخاري..
كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم يلتقي بالناس خمس مرات يوميًّا في الصلوات الخمس،ثم يستديرُ فيستمعُ لهم،ويُكلِّمهم،ويسألُ عن أخبارهم،ويطمئنُّ على أحوالهم،ويتفقد غائبهم..وكان يذهبُ لتشييع الجنائز،فيشهدُها بنفسه،ولا يتأخّرُ عنها،إلا حين لا يعلمُ بها،وعاتبَ أصحابَه كثيراً لأنهم لم يعلموه بوفاة إمرأةً كبيرة كانت تنظف المسجد ثم ذهب لقبرها فصلّ عليها)أخرجه البخاري وبابه مفتوح للجميع ليصارحونه بكلامهم بلا تكلف هذا رسول الله..هذا رسول الله..يجلس بين أصحابه فلا يتخذ لنفسه مكانا مميزًا،ولا هيئة متميزة،بل كان يجلس مثلهم على الأرض حتى يدخل الغريب عليهم فلا يعرف أيهم رسول الله)أخرجه الطبراني ويعلَّمهم أن لافرق بين غني وفقير،ولا بين رئيس ومرؤوس.وكان يحضر للمسجد فيَهمُّونَ للقيام له تحيةً وإكرامًا،فكان ينهاهم عن ذلك-أخرجه أحمد-(وعند الطعام كان يأكل كأحدهم،فليس له مكان مخصص للطعام بل كان يقول إنما أنا عبد،آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد(أخرجه أبو يعلى في مسنده..(يأتي رجل له صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ،فَكَلَّمَهُ ، فجَعلَ ترعدُ فرائصُهُ،فقالَ لَهُ:هوِّن عليكَ،فإنِّي لستُ بملِكٍ،إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ أخرجه ابن ماجة وكان يركبُ ما تيسر له ركوبه، فركب الفرس،والناقةَ،والبغلةَ،والحمار وكان عادة يأخذ أحدًا من أصحابه معه، يركبُ خلفه، إن لم تكن معه دابة يركبُ عليها.وكان يُجالِس الناسَ،كلّ الناس، فليس له من خواصّ الأغنياء أو ذوي الهيئات جلساء،بل يُجالسُ الجميع،وأكثرهم الفقراء بل كان يقول في حديثه(اللهم!أحيني مسكينًا،وأمتني مسكينًا،واحشرني في زمرة المساكين)أخرجه الترمذي، فلا يمهَّدْ له مكانٌ قبل مجيئه،وفي سفره كان بسيطًا كما في حَضَره تمامًا، يقولُ أنسٌ بن مالك رضي الله عنه حجَّ)صلى الله عليه وسلم( على رَحْلٍ رثٍّ وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي،ثم قال اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)أخرجه ابن ماجة الله أكبر هذا رسول الله رسول الأمة وهي رسالةٌ للمتكلفين الذي يتخذون المظاهر لهم ميزة..اليوم ويتفاخرون بها..اتركوا عنكم التكلّف في حياتكم واعتمدوا البساطة في عيشكم تفلحوا وتسعدوا ..
عباد الله..إن كل ما سمعناه يحثُّنا لعدمِ التكلف فالبساطة استقرارٌ اجتماعي وهي توسّطٌ بين تكلّفٍ مفرِّطٍ والمتكلفون كلابسي أقنعة لا تدوم على وجوههم ويتعبون منها وتؤدي بهم لنقص الثقة والخوف الدائم وعدم الكلافة سببٌ لدوام التواصل في زواج أو عزاء وصلات رحم ونجاح وزيارات وما أكثر الأقارب والأصدقاء ممن أبعدهم التكلّفُ،الإسلامُ يَحضُّ على الكرم لكنه ينهى عن التكلف، ويُحب الجَمال لكنه يُبغض التصنُّعَ، والمسلمُ الواعي لا يتكلَّف ولا يكلِّف غيرَه.. نسأل الله العلي الكريم أن يوفقنا إلى ما فيه صلاح ديننا ودُنيانا، وأن يهدينا إلى أحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، وأن يرضى عنا..أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..
أيّها المسلمون، الصوم في شهر الله المحرَّم عبادةٌ جليلة وقربة وفضيلة،قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)أخرجه مسلم ومن ذلك سنة صيام يوم عاشوراء حيث كان صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صومه ثم وجه بصيام يوم قبله أو بعده مخالفة ليهود يصومونه لأنه يوم نجّى الهب فيه موسى من فرعون وقومه واحذروا مما يعرض من رافضة في أيام عاشوراء من بدعٍ ومحدثاتٍ ضالة بتشويه للتاريخ والأمة نسأل الهم لنا ولهم الهداية وأن يكفينا شرهم ..