• ×

08:02 صباحًا , الإثنين 21 جمادي الثاني 1446 / 23 ديسمبر 2024

مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنًّا

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله وحده أرشدنا لكل خير وحذرنا من كلِّ شرٍّ وأشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً له من غير شرك وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دلنا على القيم والبرِّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب ومعشر..أما بعد فاتقوا الله عباد الله..واعلموا أنَّ الإسلام جاءَ بشرعه الحكيم ليؤكدَ عبادةَ اللهِ العظيم ويعيشُ الناس في ظلِّ أحكامه متآلفين ومن كلِّ ما يضرُّهم في دينهم أو دنياهم سالمين فدينُنا يُعطينا طريقةَ عبادةٍ وتوحيدٍ ومعيشةَ حياةٍ بالخير تزيدُ وحذرنا مما يُفسدُ الدنيا والدين..لأن إسلامنا قائمٌ على الطُهرِ والنقاءِ،والصدقِ والوفاءِ،واضحاً في أحكامه،جليَّاً في تشريعاته،صادقاً في توجيهاته،إنَّهُ نورٌ يشرق،وضياءٌ يتلألأ؛ واضحٌ وضوحَ النهار،ساطعٌ سطوع الشمس،نقيٌّ نقاءَ الماء الزلال(نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)نور يُبدِّدُ ظلماتِ الجهلَ،ويطردُ غياهبَ الخنا والغفلة،ويمقتُ دهاليزَ الرذيلةِ؛يرفضُ الغموضَ،ويُبغضُ الالتواء،ويكرهُ المخادعةَ؛شعائرهُ لا تُؤدَّى في سراديبَ مظلمةٍ،ولا زوايا مختبئة،ولا أنفاق معتمة؛لأنه قائمٌ على الوضوحِ والصفاءِ في المظهرِ والمَخْبَرِ،والسِّر والعَلَن،والليل والنَّهار؛وأتباعه يجب أن يشملهمُ هذا الصفاء،ويعمَّهُم هذا النقاء،ويسودَهم الوضوح..دعاهم لجمالِ الظاهر،وطهارةِ البدنِ؛وأمرهم بصفاء النفس،وسلامة الصدر،والصدق في القول والعمل؛بل جعلها أصلاً،وبيَّن أنَّها محلُّ نظرِ الرب سبحانه يقول صلى الله عليه وسلم"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" رواه مسلم.
أيها الإخوة..إن أعظمَ ما حارَبه الشرعُ المطهَّر الغشُّ بشتى أنواعِه ومختَلَفِ صوَرِه وفي جميعِ الميادين وكافّةِ مَجالاتِ الحياة، فالله جل وعلا يقول..(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ)ويقول عزَّ شأنه..(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)ومرَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على صُبْرةِ طعامٍ فأدْخَل يدَه فيها، فنَالَتْ أصابعُه بلَلاً،فقَال..(ما هَذا يا صَاحِبَ الطِّعَام؟!)قال..أصَابتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ الله،قال..(أفَلا جعلْتَهُ فوْقَ الطَّعامِ كي يرَاهُ النَّاس؟! مَنْ غشَّ وفي رواية من (غشنا) فليْسَ منَّا)) رواه مسلم..
أرسل عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-‏ عاملاً له يبيعُ له بيعاً فلما باعَه وعاد قال.. لولا أني كنت أزيد فأنفقه لكان كاسداً..فقال له عمر.. هذا بَخَسٌ لا يَحِلُّ..فنادى في الناس إن البيعَ مردود،وإن البيع لا يحل..ولقد كان هذا ديدن السلف رضي الله عنهم فهم بعيدون عن الغش،منزهون عن الكذب،مترفعون عن الخداع، مصونون من أكل الحرام..كان لأبي بكر -رضي الله عنه-‏ غلام وكان أبو بكر يأكل معه فلما أكلوا يوماً قال له الغلام.. أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر.. وما هو؟ قال.. كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحْسِنُ الكهانة، إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه. فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه!.
إنَّ أمةً يشيعُ فيها الغِشُّ،ويكثر الخداعُ،والكذب،لهي أمةٌ مُعرَّضَةٌ لسخطٍ من الجبَّار جلَّ جلاله،بعيدةً عن التوفيق،محرومةً من النجاح،تُعاقَبُ في الدنيا قَبلَ الآخرةِ،وتحلُّ بها الكوارث،وتنزل بها المصائب،ويُسلّطُ عليها الأعداء..يقول -صلى الله عليه وسلم-.. "خمس خصال إذا ابتليتم بهن -وأعوذ بالله أن تدركوهن-..لم تظهر الفاحشة في قوم قط فيعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا". ولم ينقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان؛ولم يمنعوا زكاة أموالهم رلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا؛ ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" صحيح ابن ماجه..والغشُّ إخوتي سببٌ لانهيار الاقتصاد في الدنيا،ووسيلةٌ لدخول النارِ في الأخرى،وسببٌ لحِرمان البركةِ في الدّار،يقول صلى الله عليه وسلم..(المؤمِنُ غِرٌّ كرِيم)أي..سليمُ الصدر حسَنُ الباطنِ والظاهر،وفي تمام الحديث..(والفَاجِرُ خِبٌّ لئِيم)أي..ذو مكرٍ وغِشٍّ وخِداع..وفي حديثٍ آخر..(لا يدْخُلُ الجنَّةَ خِبٌّ ولا منَّانٌ ولا بخِيل)رواه الترمذيّ وقال.."حسنٌ غريب"والخِبُّ هو الخَدَّاع. وفي حديث آخر..(المكرُ والخديعةُ في النَّار)لذلك فالغشُّ بسائِر أنواعِه لاشك أنه من كبائرِ الذنوب لنفيِ الإسلامِ عمّن فعله عياذاً بالله منه..والمتأمّلُ في واقعِ بعضِ الناسِ اليومَ يجدَ تفنُّنًا في الغشّ وتحايلاً في التمويهِ والتزويرِ والخداع وكأنهم يرونه شطارة وما علموا أنه بالدنيا والآخرة خسارة؛يغشون بشتى الوسائل والأنواع مما لا يُرضي اللهَ جل وعلا،ومما يُخشى معه من عقوباتٍ نازلةٍ ومَثُلاتٍ واقعة فاتَّقوا الله،واحذروا سخَطه وأليمَ عقابه.
أَيُّها الإخوة..الغِشُّ يدخل في مجالاتٍ كثيرةٍ،منها الغشُّ في النّصيحةِ،والفكر والتأليف والمعاملات والتعليم والغشُّ مِن الحكّام للرعيّة، وللحكام من الرعيّة والغشُّ في أمور الزواج والنكاح،وفي تربية الأولاد بإهمالهم وشك أنَّ أظهرَ صوَرِه وأكثرَها انتشارًا في مجتمَعات المسلمين الغشُّ في المعاملات المالية بيعاً وشراءً..فبعضُ المتعاملين في التجارة قاعدتُهم إخفاءُ الحقيقةِ والتلبيسُ على المشتري والمستهلك عبرَ كذبٍ صُراحٍ أو تدليسٍ وخِداعٍ أو تستّرٌ تجاري يُخالَفُ به النظام ويُفسدُ اقتصاد البلد وتنميتَه!!والغِشُّ عموماً قاعدته إظهارُ ما ليس في باطن الأمر ممّا لو اطّلع عليه المُتعَامِلُ لا يرْضَى به ولا يبذلُ مالَه فيه،وما يكون أيضًا من التصرّفات مبنيًّا على الكذِب وعدَم البيان بحقيقةِ الحال،أو كتمُ سوء السّلَع بشتَّى أنواعِها،كإخفاءِ عيوبِ أو إظهار ما ظاهِره الحُسن وباطنُه قبيح الغش حتى في منتجات الزراعة كخضارٍ وتمور وما يؤكل حين يشتمل على الضرر من مبيدات وسموم وسكريات ضارة وغير ذلك مما يُخفونه عن المشتري والمستهلك أفلا يتقون الله بها يفعلون ومن الغش المبالغةُ في أخذ الأرباح والمغالاةُ في السلعة أو الديون كما يفعله بعض الدائنين في جشعٍ وطمع واضحين لتصل نسب الربح على الدين 100% بالسنة استغلالاً لحاجة الضعفاء وكذلك الغش بالعبث بالشروط بالعقود عند الشراء والبيع،قال صلى الله عليه وسلم(البيِّعانِ بالخيَارِ مَا لم يتَفرَّقا،فإِنْ صدَقَا وبيَّنَا بُورِكَ لهمَا في بيْعِهِمَا،وإِنْ كتَمَا وكَذَبا مُحِقَتْ بركَةُ بيْعِهِمَا)متفق عليه، وفي حديثٍ آخَر يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم(لا يحِلُّ لامرِئٍ مسلِمٍ يبيِعُ سِلْعةً يعلَمُ أنَّ بها داءً إلا أخْبَر بِه)رواه البخاري وهذا تراه في بعض مبايعاتِ الأراضي والبيوت والأنعام وغيرِها يأتي من يزايد في السلعة وهو لا يريدها وإنما يريد رفع سعرها عياذاً بالله أو ترى من مَن يمدح سلعةَ غيره ويُغلي ثمنها ثم لا يشتَري،وإنما يريد أن يُسمِع غيرَه ذلك الأمرَ حتى يزيد في الثمن..وهو من النجش وهنا أحذر أصحاب الدعايات في السناب وغيره ممن يسوّقون بعض البضائع ويمدحونها وهم لا يدرون عنها فإنهم يَغشُّون وهناك من يُكثر الحلف ببيع السلع فهذا غِشٌ خاصةً إذا كذب(فثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم يوم القيامة ولهم عذابٌ أليم منهم [المنفق سلعته بالحلف الكاذب]( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)..والبضاعةُ الجيدةُ لا تحتاجُ لِحلف والغشُّ أيضاً يقعُ في المقاولاتِ المعماريّة،بسوء بناءٍ أو تنفيذٍ،حين يهمِلُ المقاوِلُ في تنفيذِ العّقد ويخالِفُ في الشروطِ مع غَفْلةِ المالك أو ثقته الزائدة أو عدَم معرفتِه بما يقَع معه مما لا يحمَد عُقباه من نتائجَ سيئةٍ وعواقبَ ذميمةٍ،وسواءٌ كان ذلك الغش مع أفرادٍ أو دولٍ أو مؤسسات فهو محرّمٌ في شريعة الله جل وعلا. والغَبنُ الفاحش بالمسلمين من الغش،فإذا كان المشترِي لا يعرِف قدرَ قيمَة السِّلعة ولا يُحسِنُ المجادلةَ في انتقاصِ الثمن فلا يجوزُ لبائعٍ أن يستغلَّ ذلك فيبيعُه سِلعةً بأكثر من ثمنِها المعتاد خاصةً فيما يتعلّقُ ببضائعِ النساء من ملابسَ وعطور وغيرها مستغلاّ جهلَ المشتري وانخداعَه بالسوق،والموضة الجديدة المسماة كذباً بالماركات حيث يستغلون جهل الناس بها فيغالون في سعرها والغش بها وإن ما نسمَعه بأنَّ البيعَ والشراء شَطارةٌ وكياسة ليس ذلك من الشرع..روي عن أحد الصحابة أنه يُخدعُ..في البُيوع،فاشتَكى للنبيِّ فقال له عليه الصلاة والسلام..(إذَا تبايعْتَ فقُلْ..لا خِلابَة)متفق عليه،والخِلابة هي الخديعة؛ولذا تقرَّر في الفقه الإسلاميّ ما يُسمَّى بخيار الغبن؛ دفعًا لما حصل من الأمور المحرَّمة التي غرَّرت بالمشتري وأوقعته في ثمنٍ ليس هو ثمن المثل.
عباد الله..أعظمُ أنواع الغش أن يَغُشَّ الإنسانُ نفسَه فلا يصدقُ لها في النصيحة،ولا يقيمها على الدين، ولا يهذِّبُها بالشرع،ولا يزُكيِّها بالهدى،ولا يَنْفَعُها بصحةٍ في مطعمِه ومشرَبه يقول الله(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا( والغِشُّ أيضاً في الرعية ومن ولاّك الله أمرهم فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته وبالحديث (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) متفق عليه وهذا الغش يكون بإهمالهم وعدم الاهتمام بهم..أو بتوفير ما يؤذيهم ويفسد دينهم وأبدانهم وأخلاقهم وقيمهم..وهذا مع الأسف أصبحنا نراه اليوم مع آباء وأمهات يهملون أولادهم حتى رأينا مظاهر في مجتمعاتنا مُقلقة وتشتكي منها الجهات الأمنية والرقابية سببها إضاعة التربية أليس هذا غشاً؟!الغش يكون في النصيحة بكتمانها وعدم الصدق أو المجاملة والنصح بأن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك والغش أيضاً في الدعوة إلى دين الله حين تكون محرّفة متلاعبة بتعاليم الدين أو متطرفة غالية طبعها التصنيف..الغش في وظيفةٍ توليتها حسب القرابة والواسطة ثم تهمل أو تعطل أو عياذاً بالله يرتشي لإنجازها وكذلك الغش بالامتحانات والدراسة والترشيح والترقية حتى سرقة الكتب ثم ادعاء تأليفها..
إنَّ الغشَّ عباد الله يجمع أسوأ الصفات، وأقبح المعاصي، فهو يجمع الكذب والبتهان، والزور، والخداع، والمكر، والاحتيال، والنصب،وخيانة الأمة، والتغرير، وأكل المال بالباطل، وعدم الرضا بقدر الله، وما قسم من الرزق إلى غير ذلك،من ذميم الأخلاق، وسيئ الخصال، فهو ظلمات بعضها فوق بعض؛ أجارنا الله وإياكم من أهله، وحفظنا من أربابه.
الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
إنَّ مرور النبيِّ صلى الله عليه وسلم على صاحب البضاعة وسؤاله عنها ثم متابعته محاسبته وكذلك فعل عمر رضي الله عنه بجعل مراقبين للأسواق كل هذا دلالة على أهمية مراقبة الأسواق لأنه يقيمُ الدين ويحفظ الاقتصاد ويحمي المستهلك ويُبدد الغشَّ لأنه يُبدد الغش لأنه مع الأسف من شيم بعض البائعين فلا بد من الرقابة على الأسواق والحرص على ذلك وجعل المكافأة لمن يبلغ عنهم لأن هؤلاء يؤذون الأمة في دينها وقيمها وصحتها..ولدينا بحمد الله جهات رقابية من وزارة التجارة والبلديات تقوم بعمل رائعٍ وتُشهر بالمخالفات نسأل الله عز وجل أن يوفقهم وأن يُسدد بالخير جميع أمورنا..


 0  0  635

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.