الحمد لله أعطى الغنى والفقر،وأمر بالصلاة والصبر،وأعظم الأجر،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والقدر،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رفع له الذكر،وشرح له الصدر،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما سجى الليلُ وانبثق الفجر..أما بعد فاتقوا الله عباد الله..
هدفٌ منشودٌ إذا فقدَه الإنسانُ فلن يستقرَّ على حالٍ،ولا يسكُنُ لقرار،وبدونه الإنسانُ قلِقٌ مُتبرِّمٌ،مُضطربٌ حائر،أمنيةٌ إذا لم يُحقِّقها طالبُها فهو أشبَهُ بحيوانٍ شَرِسْ أو سبُعٍ مُفترس، والمُجتمع بدونه غابةٌ من غير غاية ولو كان فيه تقدمٌ وحضارة فالمقاييسَ فيه للأشدِّ والأقوى وليس للأصلَحِ والأتقى..هدفٌ وغايةٌ وأمنيةٌ يطلبُها كثيرون في غير موضِعِها،من غير مظانِّها،جرَّبوا مُتعاً وشهوات فما وجدُوها،حسِبَها قومٌ في الغِنَى ورغَدِ العيشِ،ظنوها في الظلم والبطش طلبوها في الجاهِ والمقامِ العريض،واعتقَدَتها فئةٌ في حُسن العلوم والمعارِف،خاضَ في البحث عنها علماءُ وفلاسِفة وشعراء،أغنياءُ وفقراء،وملوك ووُجهاء فضَّلوا عنها.إنها يا عباد الله نعمةُ الطمأنينةِ والرِّضَا والسَّكينة..وما أعظمَ الفرقَ بين رجلَين أحدُهما عرفَ غايته فاطمأنَّ واستراحَ،وآخرُ ضالٌّ يخبِطُ في عِماية،ويمشي لغير غاية،لا يدري كيف المَسير،ولا أين المصير(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)لسان حال بعضهم عياذاً بالله ..جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟كيف أبصرت طريقي؟لست أدري..كم من صاحبِ مالٍ وفير وخيرٍ كثير رِضاهُ وطُمأنينتُه وقناعتُه في تحرِّي الحلال وأداء حقِّ الله فيه أعطَى الأجيرَ أجرَه، ولم يُذِلَّ نفسَه من أجلِ مالٍ أو جاهٍ. وآخرُ عندَه ما يكفيه،ولكن الطمعُ ملأَ قلبَه،وانتشرَ التسخُّطُ بين جوانحِه،جَزِعٌ من رِزقه،مُتسخَّطٌ على رازِقِه، يبُثُّ شكواه للمخلوقين،واللهُ(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)..وكم من غني لم يفارق الشقاء جنبيه، ولم يجد في المال معنى الغنى الحقيقي،وكم من صاحب جاهٍ ومنزلة رفيعة لم يذق طعم الأنس والاستقرار في وردٍ ولا صدر،ولا لاح له طيفُه يومًا ما،وكم من صاحب أهلٍ وولدٍ يتقلّبُ في حزنٍ وقلقٍ واضطرابٍ نفسيٍّ وعدم الرِّضَا بالحال فقيرٌ راضٍ وهو لم يحظَ بشيء؛لا مال ولا جاهٍ ولا أهل ولا ولد، غيرَ أن صدرَه أوسعُ من الأرض برمّتها، وأُنسَه أبلغُ من شقاء أهلها، وطمأنينَتَه أبلجُ من قلقهم واضطرابهم، لماذا؟إنه الرِّضَا!!نعمةٌ عظيمة تبدأ بالإيمان..قال صلى الله عليه وسلم(من قال:رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولاً وجبت له الجنّة)رواه أبو داود..الرِّضَا نعمةٌ عظيمةٌ،يبلُغُها العبدُ بقوَّةِ إيمانه بربِّه وحُسن اتِّصالِهِ به،ينالُها بالصبرِ والذكرِ والشكرِ وحُسن العبادة،ولذلك خاطَبَ اللهُ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)..الرِّضَا بابُ الله الأعظم،وجنةُ الدنيا،ومُستراحُ العارفين،وحياةُ المُحبِّين، ونعيمُ العابدين،وقُرَّةُ عيون المُشتاقين..وهو عطاء الله لسيد الأنبياء والمرسلين(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) الرِّضَا سرُّ السعادة، وطريقُ السَّكينة،وجادَّةُ الطمأنينة..وهو تصالحٌ مع النفس يُثمر سكينة تنتج الصبر والسعادة وعلاجٌ للقلق والخوف من المستقبل يُثمر صحةً ورزقاً وبركة..فيارب أرْضنا وارضَ عنا.. المتزوج يتحدث بشوقٍ عن العزوبية..الأعزبُ يتكلم يريد حياة المتزوجين ..الغني يشتاق لحياة البسطاء والفقراء يسبون فقرهم المثقف يشتكى من العلم وجاهل يبكى على علم لم ينله.. العجوز يهيم في الطفولة والطفل يتمنى الرجولة وحدثتها والواقع أنهم كلهم سعداء ولا يدرون لأن الرضا ينقصهم.. يا عبد الله،السعادةُ والرِّضَا ليس بوفرة مال،ولا عِظَم جاه،ولا كثرة ولد،ولا بنَيْل مُتَع ومنافع..الرِّضَا يَحُدُّ من الحرص والطمع،والشراهة والجشَع،ويدعو للأخذِ بالأسباب بالحديث:«اتقوا الله،وأجمِلوا في الطلبِ».فـ«الغِنى ليس بكثرة العَرَض،وإنما بِغِنى النفسِ».الراضي لا يتمنَّى ما لا يتيسَّرُ له،أو يتطلَّعُ لما لا يستطيع؛ فالشيخُ لا يتمنَّى الشباب،وغيرُ الجميل لا يتطلَّعُ للجمال(وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)يقول عطاء:"الرِّضَا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد،وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به قال الحُكماء:"من رضِيَ بقضاء الله لن يُسخِطَهُ أحدٌ،ومن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ"وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول (ارضَ بما قسمَ الله تكن أغنى الناس،واجتنِب محارِمَ الله تكن أورعَ الناس،وادِّ ما فرضَ الله تكن أعبدَ الناس)..
الرِّضَا قناعةٌ وثقةٌ ويقينٌ،فمن قنِعَ فقد رضِي، ومن رضِي فقد قنِع وفي الحديثِ:«قد أفلحَ من أسلمَ، وكان رِزقُه كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه» رواه مسلم والسعادةُ والرِّضَا إيمانٌ بالله وبرسوله،ورِضا نفسٍ وانشراحُ صدرٍ،والمؤمنُ يغمُرُه الرِّضَا؛فيُدركُ فضلَ الله العَميم وإحسانَهِ العظيم،في نعمٍ لا يُحصِيها سمُعُهُ وبصُرُهِ،وأهلُه وفي شأنِه كُلِّه لأنه مؤمنٌ يرى ويُشاهِدُ نعمَ الله ورحماته فيما حولَه(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) المؤمنُ المُطمئنُّ الراضِي يلهَجُ بذكرِ الله،( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)ثم يستشعِرُ نعَمَ الله«الحمدُ الله الذي أطعمَنا وسقانا وكفانا وآوانا وجعلَنا مُسلمين»،«الحمدُ لله الذي كساني هذا ورَزَقنيه من غيرِ حولٍ مني ولا قُوَّةٍ»و«الحمدُ لله الذي أحياني بعد ما أماتَني وإليه النشور»،«الحمدُ لله الذي أذهبَ عني الأذَى وعافاني»،«اللهم إني أصبَحتُ منك في نعمةٍ وعافيةٍ وسِترٍ،فأتِمَّ عليَّ نِعمتَكَ وعافِيَتك وسِترَكَ في الدنيا والآخرة»،«اللهم ما أصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِكَ فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ»يا ألله رضا ما بعده رضا..فالحمدُ لله رب العالمين، والحمدُ لله على كل حال..هذا هو المؤمنُ،يغمُرُه رضاً وطمأنينة وسعادة في كل حينٍ،وعلى كل حالٍ، مُتعلِّقٌ بربِّه،راضٍ عنه،مُطمئنٌّ إليه، يتلقَّى ويتقبَّلُ أقدارَ الله في نعمائها وبأسائها،ويعلمُ علمَ اليقين أن الله يُريدُ بعباده اليُسرَ ولا يُريدُ بهم اليُسرَ(فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)وهو مؤمنٌ راضٍ مُوقِنٌ أن الله معه؛وأنه في معيَّة الله يحفَظُه ويكلؤُه،«أنا عند ظنِّ عبدِي بي،وأنا معَه إذا ذكَرَني»،(لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)وشعورُ المؤمنِ بمعيَّة الله له يجعلُه برضى دائمٍ ونعيمٍ موصولٍ يغمره إحساسٌ بالرِّضَا بكل قدَرٍ من أقدار الله؛لأنهُ مؤمنٌ أن تدبيرَ الله أفضلُ من تدبيرِه لنفسِه..حتى لو أصيب بمصيبة أو حلّت به خسارة أو ابتلي بمرضٍ فالرِّضَا يملأ جوانِحَه؛ويعلمُ أن الخيرَ بيدَي ربِّه..
عباد الله..الرِّضَا لا يعني الخمول والكسل وعدمَ طموحٍ أو قبولَ خطأ ومُجاملة..وليس شرطُ الرِّضَا أن لا يُحِسَّ السعيدُ بالألم والمكارِه؛ولكن لا يعترِضُ على مجارِي الأقدار،ولا يتسخَّط من الحوادِثِ والنوازِل؛راضٍ كرِضا المريضِ بشُربِ الدواء المُرِّ؛لأنه يعلمُ العاقبةَ ويرجُو العافيةَ.والرِّضَا والقناعةُ لا تمنَعُ تاجِرَ من تنمِيَة تجارته،ولا موظفاً من تطلُّعٍ لترقِّي في وظيفته،ولا عامِلٍ في تحصِيلِ مُرتَّبِه،إنما الممنوعُ التسخُّطُ والتبرُّم وأثر الرِّضَا سعادةٌ بالحياة وللرضا حلاوة وعذوبة تفوق متع الدنيا كلها..فابتسامات الفقراء والرِّضَا من أفواه المحزونين والمُتألِّمين والفُقراء والمساكين ليس لأنهم سُعداء في عيشِهم؛بل لأنهم مكتفين في أنفسهم،أما الزفرات والآهات من صُدور أغنياءِ ووجهاء في معاشهم لكنهم أشقياء وتلك عبرةٌ للعقلاء..فالرِّضَا بمحبة الله وحده وخوفه وحده ورجائه وحده وكلِّ ما من شأنه أن يُصرَفَ له وحده،هو الشفاء(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ*قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)رضا بربوبيته سبحانه ورضا بتدبيره وتقديره وأن ما أصاب العبد لم يكن ليُخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وإذا رضي العبد بربوبية الله وألوهيته فقد رضي عنه ربُّه، وإذا رضي عنه ربّه فقد أرضاه وكفاه وحفظه ورعاه،رتّب الباري سبحانه في القرآن في غير آيةٍ رضاه عن الخلق برضاهم عنه أربع مرات بالقرآن(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)والرِّضَا عباد الله مظنّةُ سعادة المجتمعات المسلمة برمّتها،ومتى عظّمت الأمة دينها ورضيت به حكَمًا عدلاً في جميع شؤونها أفلحت وهُدِيَت إلى صراطٍ مستقيم فيا ألله كم للرضى من نعمة على العبد إذا قنع فيها والغنى غنى النفس،واللهُ يُحبُّ العبدَ الغنيَّ التقيَّ الخفيَّ ودعا صلى الله عليه وسلم اللهمَّ اجعلْ غناه في قلبِهِ"."فارض -يا عبد الله- بما قسم لك الله تكن أغنى الناس"وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم"مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ،مُعَافىً فِي جَسَدِهِ،عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ،فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا(صلى الله عليه وسلم"قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ)رواه ابن ماجه وصححه الألباني فانظر لمن هو أقل منك ترضى قال صلى الله عليه وسلم"انظروا لمن هو أسفل منكم،ولا تنظروا لمن هو فوقكم، فذلك أجدرُ ألاّ لا تزدروا نعمة الله عليكم"..إذاً ليس الغنى بكثرة مالٍ أو ولد،لكنه غنى النفس،والقناعةُ غنى وعزٌ بالله،وعدم القناعة فقر وذل للغير،ومن لم يقنع لم يشبع أبداً؛ففي القناعة العز والغنى والحرية"تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ،إِنْ أُعْطِىَ رَضِي،وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ،تَعِسَ وَانْتَكَسَ،وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ،"رَوَاهُ الْبُخَارِي والرزقُ مقدَّرٌ من عند الله، ليس مكتسباً بعلمٍ ولا بعقل، قال بعض الحكماء: "لو جَرَتْ الأرزاق على قدر العقول لم تعش البهائم". هذا هو الرِّضَا وكلنا نطمح له اللهم أرضنا وارض عنا وارزقنا الطمأنينة والقناعة والسكينة ورضِّنا في الدنيا سعادة وفي الآخرة مغفرة ورحمة وأسكنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين ..أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية ..مختصرة
هدفٌ منشودٌ إذا فقدَه الإنسانُ فلن يستقرَّ على حالٍ،ولا يسكُنُ لقرار،وبدونه الإنسانُ قلِقٌ مُتبرِّمٌ،مُضطربٌ حائر،أمنيةٌ إذا لم يُحقِّقها طالبُها فهو أشبَهُ بحيوانٍ شَرِسْ أو سبُعٍ مُفترس، والمُجتمع بدونه غابةٌ من غير غاية ولو كان فيه تقدمٌ وحضارة فالمقاييسَ فيه للأشدِّ والأقوى وليس للأصلَحِ والأتقى..هدفٌ وغايةٌ وأمنيةٌ يطلبُها كثيرون في غير موضِعِها،من غير مظانِّها،جرَّبوا مُتعاً وشهوات فما وجدُوها،حسِبَها قومٌ في الغِنَى ورغَدِ العيشِ،ظنوها في الظلم والبطش طلبوها في الجاهِ والمقامِ العريض،واعتقَدَتها فئةٌ في حُسن العلوم والمعارِف،خاضَ في البحث عنها علماءُ وفلاسِفة وشعراء،أغنياءُ وفقراء،وملوك ووُجهاء فضَّلوا عنها.إنها يا عباد الله نعمةُ الطمأنينةِ والرِّضَا والسَّكينة..وما أعظمَ الفرقَ بين رجلَين أحدُهما عرفَ غايته فاطمأنَّ واستراحَ،وآخرُ ضالٌّ يخبِطُ في عِماية،ويمشي لغير غاية،لا يدري كيف المَسير،ولا أين المصير(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)لسان حال بعضهم عياذاً بالله ..جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟كيف أبصرت طريقي؟لست أدري..كم من صاحبِ مالٍ وفير وخيرٍ كثير رِضاهُ وطُمأنينتُه وقناعتُه في تحرِّي الحلال وأداء حقِّ الله فيه أعطَى الأجيرَ أجرَه، ولم يُذِلَّ نفسَه من أجلِ مالٍ أو جاهٍ. وآخرُ عندَه ما يكفيه،ولكن الطمعُ ملأَ قلبَه،وانتشرَ التسخُّطُ بين جوانحِه،جَزِعٌ من رِزقه،مُتسخَّطٌ على رازِقِه، يبُثُّ شكواه للمخلوقين،واللهُ(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)..وكم من غني لم يفارق الشقاء جنبيه، ولم يجد في المال معنى الغنى الحقيقي،وكم من صاحب جاهٍ ومنزلة رفيعة لم يذق طعم الأنس والاستقرار في وردٍ ولا صدر،ولا لاح له طيفُه يومًا ما،وكم من صاحب أهلٍ وولدٍ يتقلّبُ في حزنٍ وقلقٍ واضطرابٍ نفسيٍّ وعدم الرِّضَا بالحال فقيرٌ راضٍ وهو لم يحظَ بشيء؛لا مال ولا جاهٍ ولا أهل ولا ولد، غيرَ أن صدرَه أوسعُ من الأرض برمّتها، وأُنسَه أبلغُ من شقاء أهلها، وطمأنينَتَه أبلجُ من قلقهم واضطرابهم، لماذا؟إنه الرِّضَا!!نعمةٌ عظيمة تبدأ بالإيمان..قال صلى الله عليه وسلم(من قال:رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولاً وجبت له الجنّة)رواه أبو داود..الرِّضَا نعمةٌ عظيمةٌ،يبلُغُها العبدُ بقوَّةِ إيمانه بربِّه وحُسن اتِّصالِهِ به،ينالُها بالصبرِ والذكرِ والشكرِ وحُسن العبادة،ولذلك خاطَبَ اللهُ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)..الرِّضَا بابُ الله الأعظم،وجنةُ الدنيا،ومُستراحُ العارفين،وحياةُ المُحبِّين، ونعيمُ العابدين،وقُرَّةُ عيون المُشتاقين..وهو عطاء الله لسيد الأنبياء والمرسلين(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) الرِّضَا سرُّ السعادة، وطريقُ السَّكينة،وجادَّةُ الطمأنينة..وهو تصالحٌ مع النفس يُثمر سكينة تنتج الصبر والسعادة وعلاجٌ للقلق والخوف من المستقبل يُثمر صحةً ورزقاً وبركة..فيارب أرْضنا وارضَ عنا.. المتزوج يتحدث بشوقٍ عن العزوبية..الأعزبُ يتكلم يريد حياة المتزوجين ..الغني يشتاق لحياة البسطاء والفقراء يسبون فقرهم المثقف يشتكى من العلم وجاهل يبكى على علم لم ينله.. العجوز يهيم في الطفولة والطفل يتمنى الرجولة وحدثتها والواقع أنهم كلهم سعداء ولا يدرون لأن الرضا ينقصهم.. يا عبد الله،السعادةُ والرِّضَا ليس بوفرة مال،ولا عِظَم جاه،ولا كثرة ولد،ولا بنَيْل مُتَع ومنافع..الرِّضَا يَحُدُّ من الحرص والطمع،والشراهة والجشَع،ويدعو للأخذِ بالأسباب بالحديث:«اتقوا الله،وأجمِلوا في الطلبِ».فـ«الغِنى ليس بكثرة العَرَض،وإنما بِغِنى النفسِ».الراضي لا يتمنَّى ما لا يتيسَّرُ له،أو يتطلَّعُ لما لا يستطيع؛ فالشيخُ لا يتمنَّى الشباب،وغيرُ الجميل لا يتطلَّعُ للجمال(وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)يقول عطاء:"الرِّضَا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد،وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به قال الحُكماء:"من رضِيَ بقضاء الله لن يُسخِطَهُ أحدٌ،ومن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ"وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول (ارضَ بما قسمَ الله تكن أغنى الناس،واجتنِب محارِمَ الله تكن أورعَ الناس،وادِّ ما فرضَ الله تكن أعبدَ الناس)..
الرِّضَا قناعةٌ وثقةٌ ويقينٌ،فمن قنِعَ فقد رضِي، ومن رضِي فقد قنِع وفي الحديثِ:«قد أفلحَ من أسلمَ، وكان رِزقُه كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه» رواه مسلم والسعادةُ والرِّضَا إيمانٌ بالله وبرسوله،ورِضا نفسٍ وانشراحُ صدرٍ،والمؤمنُ يغمُرُه الرِّضَا؛فيُدركُ فضلَ الله العَميم وإحسانَهِ العظيم،في نعمٍ لا يُحصِيها سمُعُهُ وبصُرُهِ،وأهلُه وفي شأنِه كُلِّه لأنه مؤمنٌ يرى ويُشاهِدُ نعمَ الله ورحماته فيما حولَه(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) المؤمنُ المُطمئنُّ الراضِي يلهَجُ بذكرِ الله،( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)ثم يستشعِرُ نعَمَ الله«الحمدُ الله الذي أطعمَنا وسقانا وكفانا وآوانا وجعلَنا مُسلمين»،«الحمدُ لله الذي كساني هذا ورَزَقنيه من غيرِ حولٍ مني ولا قُوَّةٍ»و«الحمدُ لله الذي أحياني بعد ما أماتَني وإليه النشور»،«الحمدُ لله الذي أذهبَ عني الأذَى وعافاني»،«اللهم إني أصبَحتُ منك في نعمةٍ وعافيةٍ وسِترٍ،فأتِمَّ عليَّ نِعمتَكَ وعافِيَتك وسِترَكَ في الدنيا والآخرة»،«اللهم ما أصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِكَ فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ»يا ألله رضا ما بعده رضا..فالحمدُ لله رب العالمين، والحمدُ لله على كل حال..هذا هو المؤمنُ،يغمُرُه رضاً وطمأنينة وسعادة في كل حينٍ،وعلى كل حالٍ، مُتعلِّقٌ بربِّه،راضٍ عنه،مُطمئنٌّ إليه، يتلقَّى ويتقبَّلُ أقدارَ الله في نعمائها وبأسائها،ويعلمُ علمَ اليقين أن الله يُريدُ بعباده اليُسرَ ولا يُريدُ بهم اليُسرَ(فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)وهو مؤمنٌ راضٍ مُوقِنٌ أن الله معه؛وأنه في معيَّة الله يحفَظُه ويكلؤُه،«أنا عند ظنِّ عبدِي بي،وأنا معَه إذا ذكَرَني»،(لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)وشعورُ المؤمنِ بمعيَّة الله له يجعلُه برضى دائمٍ ونعيمٍ موصولٍ يغمره إحساسٌ بالرِّضَا بكل قدَرٍ من أقدار الله؛لأنهُ مؤمنٌ أن تدبيرَ الله أفضلُ من تدبيرِه لنفسِه..حتى لو أصيب بمصيبة أو حلّت به خسارة أو ابتلي بمرضٍ فالرِّضَا يملأ جوانِحَه؛ويعلمُ أن الخيرَ بيدَي ربِّه..
عباد الله..الرِّضَا لا يعني الخمول والكسل وعدمَ طموحٍ أو قبولَ خطأ ومُجاملة..وليس شرطُ الرِّضَا أن لا يُحِسَّ السعيدُ بالألم والمكارِه؛ولكن لا يعترِضُ على مجارِي الأقدار،ولا يتسخَّط من الحوادِثِ والنوازِل؛راضٍ كرِضا المريضِ بشُربِ الدواء المُرِّ؛لأنه يعلمُ العاقبةَ ويرجُو العافيةَ.والرِّضَا والقناعةُ لا تمنَعُ تاجِرَ من تنمِيَة تجارته،ولا موظفاً من تطلُّعٍ لترقِّي في وظيفته،ولا عامِلٍ في تحصِيلِ مُرتَّبِه،إنما الممنوعُ التسخُّطُ والتبرُّم وأثر الرِّضَا سعادةٌ بالحياة وللرضا حلاوة وعذوبة تفوق متع الدنيا كلها..فابتسامات الفقراء والرِّضَا من أفواه المحزونين والمُتألِّمين والفُقراء والمساكين ليس لأنهم سُعداء في عيشِهم؛بل لأنهم مكتفين في أنفسهم،أما الزفرات والآهات من صُدور أغنياءِ ووجهاء في معاشهم لكنهم أشقياء وتلك عبرةٌ للعقلاء..فالرِّضَا بمحبة الله وحده وخوفه وحده ورجائه وحده وكلِّ ما من شأنه أن يُصرَفَ له وحده،هو الشفاء(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ*قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)رضا بربوبيته سبحانه ورضا بتدبيره وتقديره وأن ما أصاب العبد لم يكن ليُخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وإذا رضي العبد بربوبية الله وألوهيته فقد رضي عنه ربُّه، وإذا رضي عنه ربّه فقد أرضاه وكفاه وحفظه ورعاه،رتّب الباري سبحانه في القرآن في غير آيةٍ رضاه عن الخلق برضاهم عنه أربع مرات بالقرآن(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)والرِّضَا عباد الله مظنّةُ سعادة المجتمعات المسلمة برمّتها،ومتى عظّمت الأمة دينها ورضيت به حكَمًا عدلاً في جميع شؤونها أفلحت وهُدِيَت إلى صراطٍ مستقيم فيا ألله كم للرضى من نعمة على العبد إذا قنع فيها والغنى غنى النفس،واللهُ يُحبُّ العبدَ الغنيَّ التقيَّ الخفيَّ ودعا صلى الله عليه وسلم اللهمَّ اجعلْ غناه في قلبِهِ"."فارض -يا عبد الله- بما قسم لك الله تكن أغنى الناس"وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم"مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ،مُعَافىً فِي جَسَدِهِ،عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ،فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا(صلى الله عليه وسلم"قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ)رواه ابن ماجه وصححه الألباني فانظر لمن هو أقل منك ترضى قال صلى الله عليه وسلم"انظروا لمن هو أسفل منكم،ولا تنظروا لمن هو فوقكم، فذلك أجدرُ ألاّ لا تزدروا نعمة الله عليكم"..إذاً ليس الغنى بكثرة مالٍ أو ولد،لكنه غنى النفس،والقناعةُ غنى وعزٌ بالله،وعدم القناعة فقر وذل للغير،ومن لم يقنع لم يشبع أبداً؛ففي القناعة العز والغنى والحرية"تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ،إِنْ أُعْطِىَ رَضِي،وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ،تَعِسَ وَانْتَكَسَ،وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ،"رَوَاهُ الْبُخَارِي والرزقُ مقدَّرٌ من عند الله، ليس مكتسباً بعلمٍ ولا بعقل، قال بعض الحكماء: "لو جَرَتْ الأرزاق على قدر العقول لم تعش البهائم". هذا هو الرِّضَا وكلنا نطمح له اللهم أرضنا وارض عنا وارزقنا الطمأنينة والقناعة والسكينة ورضِّنا في الدنيا سعادة وفي الآخرة مغفرة ورحمة وأسكنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين ..أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية ..مختصرة