الحمد لله حبانا النعم،وحذَّرنا التبذير والإسراف لأنها سبب النقم، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسولُه صلى الله وسلم عليه،وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله وتذكروا واتعظوا واعتبروا..
كانت أرض خوفٍ وفقرٍ وجوع..يؤرّخ بالسنواتِ ويُهلك الحرث والنسل..فَقرٌ جعلَ الرجالَ يُسافرون شَرقاً وغَرباً والنساءَ يعملْن شبَه خادمات..يغيُر القويُّ على الضعيف ويسلبُ مالَه ويريقُ دمَه..كانت الأسرُ ثلاث أو أربع يعيشُون ببيتٍ واحدٍ مساحته عشرات الأمتار..الملابس رثة..الشوارعُ ضيقةٌ وموحلة..بساطة عيشٍ وفقر..عند المطرِ تخرُّ البيوتُ من فوقهم..وعند القحطُ يولون هرباً من أرضِهم..يَكادُ الطعام لا يكفيهم فيتناوبون عليه. ويقضي المرضُ على مواليدهم..هذه ليست آسيا وأفريقيا بل أرضٌ تجمعُنا ونجدٌ التي نعيشُ فيها..كبارُنا هنا يعرفون هذا الجوعَ والخوف والمسغبة..ويذكرونه قبل عقودٍ من الزمن..ثم..أَذِنَ اللهُ لهذهِ الأرض بتبدِيلِ حالِها وخروجِ كُنوزِها لتعرفَ فَيضَ مالٍ لم يعرفْه تاريخُها أبداً عبرَ الزمن..فتغيَّر الحال..لتُصبح مهوى أفئدةٍ للعملِ والتجارةِ..غنيّةً على مستوى العالم..وأصبح الحفاةُ رعاةُ الشاء. يتطاولون في البنيان ينامون ويستيقظون ويعيشون أغنياء..ومع كلِّ هذا الفقر قدّموا للعالم توحيداً خالصاً من الشرك والتعظيم منذ عصرٍ قديم ويؤثِّروا على اقتصادِ العالم..يستهلكُون طاقتَه وبضاعتَه..ويُجبى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ صيفاً وشتاءً..رايةٌ للتوحيد واحدةً بعد أن كانت راياتٍ وقبائل متعدِّدَة،واجتمعت الكلمةُ وتوحَّدت القيادةُ في وطنٍ واحدٍ..ففاضَ الخيرُ وعمَّ القريب والبعيد..بعد فقرٍ وخوفٍ ومسبغةٍ!!ومن يرى فعلهم وإسرافهَم وغناءهم وبذخَهم وحفلاتهم لا يُصدِّقُ أن هؤلاء وآباءهم قبل عقودٍ من الزمن كانوا يستجدونَ اللقمة..ويتقاتلون على الفتات..ويهاجرون لطلب الرزق..لا يعلم أنه بسنة الجوع عام 1327هـ جُمعت التبرعات في السودان والصومال الجائعة الآن لإنقاذ إخوانهم من مجاعة هنا!!نذرٌ تدعونا للتأمل والاعتبار!!وحوادثُ التاريخِ مُنذ بدأِ الخليقةِ إلى زماننا هذا تصبُّ في سمعِ الدنيا من أنباءِ القرى التي فُتحت عليها النعم فما رعوْها حق رعايتها فقُطفت في يناعِ زهوِها واستكمال بهجتِهَا وعاث المترفون بها فساداً وانفتاحاً..أَتاها أمرُ الله لتذهبَ عنها النعم وهي أشدُّ ما تكونُ وثوقاً بها وافتتاناً بزهرتِها وكلُّ شيءٍ لهم على بالٍ إلا زوالها وتحوِّلها..
حسَّنت ظنّك بالأيام إذ حُسُنت وغابَ عنك الذي يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغترَرْتَ بها وعندَ صفوِ الليالي يحدثُ الكدرُ
تلك حكمةُ الله(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)آياتُ القرآن واعظةٌ للذين ركنوا لنعم الحياة وزخرفها(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ*فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ*ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)جزاء من يكفر النعمة!!والمحافظة على النعم بشكر واهبها وألا نتعامى عن آياتٍ ونذرٍ أصابها الله لأقوامٍ كفروا نعمتَه وجحدُوا فضْلَه ولهوْا بالترف فأزالها الله عنهم..أو قومٌ حولَنا تبدّلَ أمنُهم خوفاً وتسلّطَ عليهم ظالمٌ باغٍ وغلاة!أو جوعى برزت عظامهم ومحاصرون..وأكلوا الجيف!والمترفون عنهم غافلون بصور حفلاتهم وإسرافهم يجاهرون ولا حول ولا قوة إلا بالله(وما ربك بظلامٍ للعبيد)
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحُطْهَا بطاعة رب العباد فربُّ العباد سريع النقمْ
مناسباتٌ بلا هدف لرجالٍ ونساءٍ إهدارُ نقودٍ بالأعراسِ وللتخرج حفلات..وحولَهم مَن يعيشُ على الفُتات..وفي البلدان المجاورة من فقدُوا الأمن وتسلَّطَ عليهم الطغاة..وهم لا هون بإسرافٍ وترفٍ وحفلاتٍ وغناءٍ وتفاهاتٍ..وغير ذلك مما لايساهم برقيِّ أوطان ولا نهضة بلادٍ أو بناء حضارات..قلّت البركة ووُجدَ الفقر،وأصبح التفاخر بالتوافه سمةً لبعض ذوي الأموال بل قلَّدَهم الفقراء يهايطون كما يقولون..يبذلُ أحدهم ملايين ليفوقَ غيرَه بالمشتريات ويسبقه بالشراء يسرفون بالولائم والحفلات ليس كرماً بل تفاخراً..وإذا أسرفَوا بحثَوا تصريف النعمِ الباقية وإلا فمصيرها التراب..نعوذ بالله من فسادٍ يؤدي بالنعمة للسراب..ذبْحُ الجمال والأغنام ليفاخرُ بقبيلته أو بقصيدته ويضعونها على الموائد تصويراً ومباهاةٍ..يُلبسون الناقة ذهباً!يغسلون أيديهم المتسخة بدهن العود!ينثرون النعم ويُريقون الدمَ تهويلاً!ويصوّرون أنفسهم مجاهرةً وتمثيلاً! أهؤلاء يعيشون في عالمنا؟!أين هم من دين يُحذّرهم وعقلٍ يردعهم؟!هل نحن في مأمنٍ من أن يُبدَّلَ اللهُ حالنا فنخسر النعم؟!وهل بيننا وبين الله نسب لنكون بمنجاةٍ عن العذاب وزوال النعم؟! يقول كبير سنٍ لولده لقد حدثناكم بجوعٍ مَرَّ بنا وأخشى أن يأتي زمان تُحدّثوا أولادكم بنعمةٍ مَرّتْ بكم فقدتموها..كانت الأندلس في نعمة وهناء ثم تحوّلت لبؤسٍ وشقاء..كانوا يظنون الحال دائم فأترفوا أنفسهم بالبطر والتجاوز والحفلات فإذا هو للفناء..
لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقـــصانُ فَـلا يُـغَرَّ بِـطيبِ العَيشِ إِنـــسان
هِـيَ الأُمُـورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ. مَـن سَـرّهُ زَمَـن سـاءَتهُ أَزمـــانُ
وَهَـذِهِ الـدارُ لا تُبقي عَلى أَحَـــدٍ. وَلا يَـدُومُ عَـلى حـالٍ لَها شـــانُ
أَتـى عَـلى الـكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لـــَهُ حَـتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كـانُوا
المعتمدُ بن عباد أميرٌ بالأندلس..يعيشُ حياةً مترفةً نعيماً ولذّة،أُبّهةً وعظمة،طيباتُ الدنيا تجلبُ له..اشتهت زوجتُه يوماً كشهواتِ المترفين بالتغيير والملل من الروتين!!الخوضَ بالطين!فنثرَ التراب في ساحةِ القصر ثم عجنَه بماءِ الورد لتخوضَ به هي وبناتُها ثم دارت الدائرةُ عليه،فإذا هو مصفدٌ بالأغلال بالسجنِ واستُذلَّت بناتُه فخدموا الناس وعادَ مرحوماً بعد أن كان محسوداً..وبينما هو مسجونٌ دخلَت عليه بناتُه يومَ العيدِ بملابسَ رثةٍ معهنَّ مغازل يغزلْن الثيابَ للناسِ فقال :
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيدُ في أغمات مأسورا
ترى بناتِك في الأطمار جائعةً يغزلْن للناس لا يملكن قطميرا
يطأن بالطين والأقدامُ حافيةٌ كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً
من باتَ بعدَك في مالٍ يسرُّ به فإنما بات بالأحلامِ مغروراً
كم من أمةٍ اليوم وشعبٍ ودولةٍ كان مساؤُها نعيماً مترفاً ولذةً وحديثاً لاهياً وغنى مطغياً،ثم كان صبحُها عذاباً وتشريداً وفتكاً(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) النعمُ عباد الله ابتلاءُ الله ليرى منا أداءَ حقِّها بالزكاة وشكْرِ عدمَ الإسرافِ بها..
فالإٍسرافُ الذي نشاهده ليس حفلات ولا ثياب فقط بل أصبح الترفُ سمةً للحياةِ عندنا..رجالُنا ونساؤنا.. وحتى تصرفات أولادنا..وتوصيلُ المطاعم الدائم لغدائنا وعشائنا.. إسراف بالمدح.. إسرافٌ بالفرح والتسوق يسترزق منه بعض السنابيون والمعلنون..إسراف بالكذب ومبالغةٌ بالتهم.. وعاداتُ ترفٍ هي سببٌ للفساد والهلاك والتدمير ان لم ننتبه لها فسنهلك جميعاً (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)رميُ النعمِ بالزبائلِ؟!وإليكم الإحصاءات َعباد الله أعداد جوعى العالم مليار جائع ويهدرُ يومياً مليار ونصف طن من المواد الغذائية في القمامة على مستوى العالم..وتبعاً للإحصاء المقدمة دولُ الخليج!!نعم..نحن في مقدمةِ الدولِ الأكثر استهلاكاً للأغذية فعندنا 35% من الغذاء نفايات منزلية أي 13 مليون طن من المواد الغذائية وبقايا الأطعمة في مكبّ النفايات بخسائر حوالي 50 مليار ريال سنوياً.. شركةٌ استلمت نفايات مدينةً كبرى لتدوريها اكتشفت أن (65%) منها أطعمة.. وبلغ فائض الأرز بعام واحد المرمي بالنفايات(90)طناً قيمتُها مائة مليون ريال وأربع ملايين وجبة مهدرة يومياً بأحد المناطق حسبَ ما ذكره المسؤول في جمعية إطعام!!ما هذا!!لقد أصبح إسرافنا ظاهرة ومفاخرة وعادةً قبليّة!!أنشأنا جمعيات حفظ النعم مع أن،بعضَ الناس من جهلهِ لا يتعاملُ معها ولا يُبالي بها في إسراف يُخيف ويُنذر؟وكم ذكَّر الناصحون السادرين فما تذكَّروا؟!،كم توالت على أهلِها النذرُ فلم ينتبهوا؟!،ثم أفاقوا على أمرٍ جاء بلا نذرٍ سابقةٍ ولا دلائل منذرة(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)سلوا العراق وسوريا كيف كانت في رغدٍ من العيش فماذا حصل لهم؟!سلوا الكويت قبلَ سنواتٍ سلوا مصر واليمن وليبيا الآن..وستنطق لكم الأيامُ بأفصح لسان.. وحوادثُها بأبلغ بيان لتُخبركم أن الإسرافَ والتبذيرَ وعبثَ المترفين وإضاعة الدين دمّرهم فنسوا شكرَ الربِّ المتفضل المنان واغتروا بالدنيا وجاهروا بالعصيان(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)فلنعتبر قبل أن نكونَ عبرة ولنتذكَّر الحوادثَ من حولنا تترى،فمن نسيَ فضلَ اللهِ نسيَه،ومن عصاه وهو يعرفه سلّط عليه من لا يعرفه وسلبه النعمة(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ،وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)وما نراه من أحداثٍ حولَنا ونحن آمنون يُنبهنا عن غفلةٍ ولهوٍ وترف..ومن لم توقظْه القوارعُ فمتى يستيقظ أو يرجع؟أما نخشى الله ونحن نقرأ(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)فدفع البلاء مرهونٌ بالإيمان بالله وشكر النعماء(فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)وتحقيقُ الإيمان باللجوء إلى الله بالدعاء(فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)وشكرُ اللهِ على نعمِه ليس قولاً فقط وإنما عملٌ يُصدّقُه..بترك الإسراف بالمحرم وشكر النعمة..وهذا يجنب بلادنا شرَّ فتنَ المغرضين والحاقدين وشِقَاقاً يُحدثُه المرجفون..ولا يغرّن المسرفينَ المترفين إمهالُ الله لهم وهذه المفاخرة عندهم فكم من سادةٍ أغنياءَ مترفين افتقروا وذهبوا مثلاً للتاريخ وعبرةً للناس والله أحكم وأعلم!(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)اللهم ارزقنا شكر نعمتك،وآمنَّا من تحوِّل عافيتك ومن جميعِ سخطك..ربنا لا تؤاخذنا بما فعل المترِفون ولا بما يتباهى به المسرفون اللهم إنَّا نبرأُ إليك من فعلهم فلا تشملنا بسخطك عليهم أقول ما تسمعون
الخطبة الثانية ..مختصرة
كانت أرض خوفٍ وفقرٍ وجوع..يؤرّخ بالسنواتِ ويُهلك الحرث والنسل..فَقرٌ جعلَ الرجالَ يُسافرون شَرقاً وغَرباً والنساءَ يعملْن شبَه خادمات..يغيُر القويُّ على الضعيف ويسلبُ مالَه ويريقُ دمَه..كانت الأسرُ ثلاث أو أربع يعيشُون ببيتٍ واحدٍ مساحته عشرات الأمتار..الملابس رثة..الشوارعُ ضيقةٌ وموحلة..بساطة عيشٍ وفقر..عند المطرِ تخرُّ البيوتُ من فوقهم..وعند القحطُ يولون هرباً من أرضِهم..يَكادُ الطعام لا يكفيهم فيتناوبون عليه. ويقضي المرضُ على مواليدهم..هذه ليست آسيا وأفريقيا بل أرضٌ تجمعُنا ونجدٌ التي نعيشُ فيها..كبارُنا هنا يعرفون هذا الجوعَ والخوف والمسغبة..ويذكرونه قبل عقودٍ من الزمن..ثم..أَذِنَ اللهُ لهذهِ الأرض بتبدِيلِ حالِها وخروجِ كُنوزِها لتعرفَ فَيضَ مالٍ لم يعرفْه تاريخُها أبداً عبرَ الزمن..فتغيَّر الحال..لتُصبح مهوى أفئدةٍ للعملِ والتجارةِ..غنيّةً على مستوى العالم..وأصبح الحفاةُ رعاةُ الشاء. يتطاولون في البنيان ينامون ويستيقظون ويعيشون أغنياء..ومع كلِّ هذا الفقر قدّموا للعالم توحيداً خالصاً من الشرك والتعظيم منذ عصرٍ قديم ويؤثِّروا على اقتصادِ العالم..يستهلكُون طاقتَه وبضاعتَه..ويُجبى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ صيفاً وشتاءً..رايةٌ للتوحيد واحدةً بعد أن كانت راياتٍ وقبائل متعدِّدَة،واجتمعت الكلمةُ وتوحَّدت القيادةُ في وطنٍ واحدٍ..ففاضَ الخيرُ وعمَّ القريب والبعيد..بعد فقرٍ وخوفٍ ومسبغةٍ!!ومن يرى فعلهم وإسرافهَم وغناءهم وبذخَهم وحفلاتهم لا يُصدِّقُ أن هؤلاء وآباءهم قبل عقودٍ من الزمن كانوا يستجدونَ اللقمة..ويتقاتلون على الفتات..ويهاجرون لطلب الرزق..لا يعلم أنه بسنة الجوع عام 1327هـ جُمعت التبرعات في السودان والصومال الجائعة الآن لإنقاذ إخوانهم من مجاعة هنا!!نذرٌ تدعونا للتأمل والاعتبار!!وحوادثُ التاريخِ مُنذ بدأِ الخليقةِ إلى زماننا هذا تصبُّ في سمعِ الدنيا من أنباءِ القرى التي فُتحت عليها النعم فما رعوْها حق رعايتها فقُطفت في يناعِ زهوِها واستكمال بهجتِهَا وعاث المترفون بها فساداً وانفتاحاً..أَتاها أمرُ الله لتذهبَ عنها النعم وهي أشدُّ ما تكونُ وثوقاً بها وافتتاناً بزهرتِها وكلُّ شيءٍ لهم على بالٍ إلا زوالها وتحوِّلها..
حسَّنت ظنّك بالأيام إذ حُسُنت وغابَ عنك الذي يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغترَرْتَ بها وعندَ صفوِ الليالي يحدثُ الكدرُ
تلك حكمةُ الله(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)آياتُ القرآن واعظةٌ للذين ركنوا لنعم الحياة وزخرفها(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ*فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ*ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)جزاء من يكفر النعمة!!والمحافظة على النعم بشكر واهبها وألا نتعامى عن آياتٍ ونذرٍ أصابها الله لأقوامٍ كفروا نعمتَه وجحدُوا فضْلَه ولهوْا بالترف فأزالها الله عنهم..أو قومٌ حولَنا تبدّلَ أمنُهم خوفاً وتسلّطَ عليهم ظالمٌ باغٍ وغلاة!أو جوعى برزت عظامهم ومحاصرون..وأكلوا الجيف!والمترفون عنهم غافلون بصور حفلاتهم وإسرافهم يجاهرون ولا حول ولا قوة إلا بالله(وما ربك بظلامٍ للعبيد)
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحُطْهَا بطاعة رب العباد فربُّ العباد سريع النقمْ
مناسباتٌ بلا هدف لرجالٍ ونساءٍ إهدارُ نقودٍ بالأعراسِ وللتخرج حفلات..وحولَهم مَن يعيشُ على الفُتات..وفي البلدان المجاورة من فقدُوا الأمن وتسلَّطَ عليهم الطغاة..وهم لا هون بإسرافٍ وترفٍ وحفلاتٍ وغناءٍ وتفاهاتٍ..وغير ذلك مما لايساهم برقيِّ أوطان ولا نهضة بلادٍ أو بناء حضارات..قلّت البركة ووُجدَ الفقر،وأصبح التفاخر بالتوافه سمةً لبعض ذوي الأموال بل قلَّدَهم الفقراء يهايطون كما يقولون..يبذلُ أحدهم ملايين ليفوقَ غيرَه بالمشتريات ويسبقه بالشراء يسرفون بالولائم والحفلات ليس كرماً بل تفاخراً..وإذا أسرفَوا بحثَوا تصريف النعمِ الباقية وإلا فمصيرها التراب..نعوذ بالله من فسادٍ يؤدي بالنعمة للسراب..ذبْحُ الجمال والأغنام ليفاخرُ بقبيلته أو بقصيدته ويضعونها على الموائد تصويراً ومباهاةٍ..يُلبسون الناقة ذهباً!يغسلون أيديهم المتسخة بدهن العود!ينثرون النعم ويُريقون الدمَ تهويلاً!ويصوّرون أنفسهم مجاهرةً وتمثيلاً! أهؤلاء يعيشون في عالمنا؟!أين هم من دين يُحذّرهم وعقلٍ يردعهم؟!هل نحن في مأمنٍ من أن يُبدَّلَ اللهُ حالنا فنخسر النعم؟!وهل بيننا وبين الله نسب لنكون بمنجاةٍ عن العذاب وزوال النعم؟! يقول كبير سنٍ لولده لقد حدثناكم بجوعٍ مَرَّ بنا وأخشى أن يأتي زمان تُحدّثوا أولادكم بنعمةٍ مَرّتْ بكم فقدتموها..كانت الأندلس في نعمة وهناء ثم تحوّلت لبؤسٍ وشقاء..كانوا يظنون الحال دائم فأترفوا أنفسهم بالبطر والتجاوز والحفلات فإذا هو للفناء..
لِـكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقـــصانُ فَـلا يُـغَرَّ بِـطيبِ العَيشِ إِنـــسان
هِـيَ الأُمُـورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ. مَـن سَـرّهُ زَمَـن سـاءَتهُ أَزمـــانُ
وَهَـذِهِ الـدارُ لا تُبقي عَلى أَحَـــدٍ. وَلا يَـدُومُ عَـلى حـالٍ لَها شـــانُ
أَتـى عَـلى الـكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لـــَهُ حَـتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كـانُوا
المعتمدُ بن عباد أميرٌ بالأندلس..يعيشُ حياةً مترفةً نعيماً ولذّة،أُبّهةً وعظمة،طيباتُ الدنيا تجلبُ له..اشتهت زوجتُه يوماً كشهواتِ المترفين بالتغيير والملل من الروتين!!الخوضَ بالطين!فنثرَ التراب في ساحةِ القصر ثم عجنَه بماءِ الورد لتخوضَ به هي وبناتُها ثم دارت الدائرةُ عليه،فإذا هو مصفدٌ بالأغلال بالسجنِ واستُذلَّت بناتُه فخدموا الناس وعادَ مرحوماً بعد أن كان محسوداً..وبينما هو مسجونٌ دخلَت عليه بناتُه يومَ العيدِ بملابسَ رثةٍ معهنَّ مغازل يغزلْن الثيابَ للناسِ فقال :
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيدُ في أغمات مأسورا
ترى بناتِك في الأطمار جائعةً يغزلْن للناس لا يملكن قطميرا
يطأن بالطين والأقدامُ حافيةٌ كأنها لم تطأ مسكاً وكافوراً
من باتَ بعدَك في مالٍ يسرُّ به فإنما بات بالأحلامِ مغروراً
كم من أمةٍ اليوم وشعبٍ ودولةٍ كان مساؤُها نعيماً مترفاً ولذةً وحديثاً لاهياً وغنى مطغياً،ثم كان صبحُها عذاباً وتشريداً وفتكاً(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) النعمُ عباد الله ابتلاءُ الله ليرى منا أداءَ حقِّها بالزكاة وشكْرِ عدمَ الإسرافِ بها..
فالإٍسرافُ الذي نشاهده ليس حفلات ولا ثياب فقط بل أصبح الترفُ سمةً للحياةِ عندنا..رجالُنا ونساؤنا.. وحتى تصرفات أولادنا..وتوصيلُ المطاعم الدائم لغدائنا وعشائنا.. إسراف بالمدح.. إسرافٌ بالفرح والتسوق يسترزق منه بعض السنابيون والمعلنون..إسراف بالكذب ومبالغةٌ بالتهم.. وعاداتُ ترفٍ هي سببٌ للفساد والهلاك والتدمير ان لم ننتبه لها فسنهلك جميعاً (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)رميُ النعمِ بالزبائلِ؟!وإليكم الإحصاءات َعباد الله أعداد جوعى العالم مليار جائع ويهدرُ يومياً مليار ونصف طن من المواد الغذائية في القمامة على مستوى العالم..وتبعاً للإحصاء المقدمة دولُ الخليج!!نعم..نحن في مقدمةِ الدولِ الأكثر استهلاكاً للأغذية فعندنا 35% من الغذاء نفايات منزلية أي 13 مليون طن من المواد الغذائية وبقايا الأطعمة في مكبّ النفايات بخسائر حوالي 50 مليار ريال سنوياً.. شركةٌ استلمت نفايات مدينةً كبرى لتدوريها اكتشفت أن (65%) منها أطعمة.. وبلغ فائض الأرز بعام واحد المرمي بالنفايات(90)طناً قيمتُها مائة مليون ريال وأربع ملايين وجبة مهدرة يومياً بأحد المناطق حسبَ ما ذكره المسؤول في جمعية إطعام!!ما هذا!!لقد أصبح إسرافنا ظاهرة ومفاخرة وعادةً قبليّة!!أنشأنا جمعيات حفظ النعم مع أن،بعضَ الناس من جهلهِ لا يتعاملُ معها ولا يُبالي بها في إسراف يُخيف ويُنذر؟وكم ذكَّر الناصحون السادرين فما تذكَّروا؟!،كم توالت على أهلِها النذرُ فلم ينتبهوا؟!،ثم أفاقوا على أمرٍ جاء بلا نذرٍ سابقةٍ ولا دلائل منذرة(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)سلوا العراق وسوريا كيف كانت في رغدٍ من العيش فماذا حصل لهم؟!سلوا الكويت قبلَ سنواتٍ سلوا مصر واليمن وليبيا الآن..وستنطق لكم الأيامُ بأفصح لسان.. وحوادثُها بأبلغ بيان لتُخبركم أن الإسرافَ والتبذيرَ وعبثَ المترفين وإضاعة الدين دمّرهم فنسوا شكرَ الربِّ المتفضل المنان واغتروا بالدنيا وجاهروا بالعصيان(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)فلنعتبر قبل أن نكونَ عبرة ولنتذكَّر الحوادثَ من حولنا تترى،فمن نسيَ فضلَ اللهِ نسيَه،ومن عصاه وهو يعرفه سلّط عليه من لا يعرفه وسلبه النعمة(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ،وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)وما نراه من أحداثٍ حولَنا ونحن آمنون يُنبهنا عن غفلةٍ ولهوٍ وترف..ومن لم توقظْه القوارعُ فمتى يستيقظ أو يرجع؟أما نخشى الله ونحن نقرأ(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)فدفع البلاء مرهونٌ بالإيمان بالله وشكر النعماء(فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)وتحقيقُ الإيمان باللجوء إلى الله بالدعاء(فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)وشكرُ اللهِ على نعمِه ليس قولاً فقط وإنما عملٌ يُصدّقُه..بترك الإسراف بالمحرم وشكر النعمة..وهذا يجنب بلادنا شرَّ فتنَ المغرضين والحاقدين وشِقَاقاً يُحدثُه المرجفون..ولا يغرّن المسرفينَ المترفين إمهالُ الله لهم وهذه المفاخرة عندهم فكم من سادةٍ أغنياءَ مترفين افتقروا وذهبوا مثلاً للتاريخ وعبرةً للناس والله أحكم وأعلم!(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)اللهم ارزقنا شكر نعمتك،وآمنَّا من تحوِّل عافيتك ومن جميعِ سخطك..ربنا لا تؤاخذنا بما فعل المترِفون ولا بما يتباهى به المسرفون اللهم إنَّا نبرأُ إليك من فعلهم فلا تشملنا بسخطك عليهم أقول ما تسمعون
الخطبة الثانية ..مختصرة