الحمد لله فرض على عباده حج بيته العتيق،وجعل الشوق لزيارته حادياً لهم ورفيق،والصلاة والسلام على من أنار الله به الدرب والطريق،وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..أما بعد
وحي من الروح لا وحي من القلم *** هز المشاعر من راسي إلى قدمي
لما رأيت حجيج البيت يدفعهم *** شوق إلى الله من عرب ومن عجم
لبوا النـداء فما قرت رواحلهم *** حتى أناخوا قبيل الصبح بالحرم
لما راو والبيت حقا قال قائلهم *** مزجت دمعا جرى من مقلتي بدم
سرى إلى الروح روحانيه عذب *** فزال عنهم سواد الهم والسقم
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)كان الحج ولا زال عبادةً وتوحيداً لله ربِّ العالمين وملتقى لعموم المسلمين ورغم أنه عبادةً واجبةً على المسلم في العمر مرةً لمن استطاع إليه سبيلاً فقد جعله الله ركناً من أركان الإسلام الخمسة لأهميته وأثره على الإسلام والمسلمين نرى الأهمية من خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة التي أوصى بها الناس وشمل بها مبادئ الإسلام وكان يقول(اللهم هل بلغت اللهم فاشهد)..أدرك ذلك قادةُ المسلمين وعلماؤهم استثماراً لأثر العبادة واجتماع الحجيج في ترسيخ التوحيد ونبذ الضلالة وتقوية الإيمان ومحاربة الشرك والخرافة والتوجيه لجمع الكلمة وتركِ فُرقةٍ وتحزُّبٍ يورث خلافات..والتأمُّلُ في معاني الحج وأسراره وقَصصه وحِكَمِهِ لا ينقضي..واليوم نقفُ مع قصةٍ عجيبة من قَصص الحج بعهد الخليفة عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه إمامُ الحجيج وقتَ خلافته الذي كان يسألُ الوفودَ القادمة من اليمن كلّ عام عن قدوم رجلٍ سمع به يُقال له أويس القرني وفي أحد المرات قالوا له أن هناك رجلاً خامل الذكر أجيراً يرعى إبلاً لنا في أطراف مكة فذهب يتتبَّعه عمر فلما وجده سأله.. أأنتَ أُوَيسُ بنُ عامر؟ قال.. نعم، قال.. مِن مُراد ثم من قرَن؟ قال.. نعم، قال.. كان بك برص فبرأتَ منه إلا موضع درهم؟ قال.. نعم، قال.. ألك والدة؟ قال.. نعم، قال.. سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.. (يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، مِن مُراد ثمَّ مِن قرن، [أي بلقرن من أرض الجنوب]كان به برص فبَرَأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) فاستغفِرْ لي، فاستغفَرَ له، فقال له عمر.. أين تريد؟ قال.. الكوفة، قال.. ألا أكتبُ لك إلى عاملها؟ قال.. أكونُ في غَبْراءِ الناس أحبُّ إليَّ، فلما كان العامُ المقبل حج رجلٌ من أشرافهم، فوافق عمر فسأله عن أويس؟ قال.. تركتُه رثَّ البيت، قليل المَتاع، فأبلغه عمر بخبره وفضله وإجابة دعائه.. فأتى ذلك الرجلُ أويسًا فقال له.. استغفِرْ لي، قال.. أنتَ أحدثُ عهدًا بسفر صالح، فاستغفِرْ لي، قال.. استغفِرْ لي، فقال أويس ألقيتَ عمر؟ قال.. نعم، فاستغَفَرَ له، ففَطِن له الناس فانطلق على وجهه متوارياً عنهم، وكسَوْتُه بُرْدةً متواضعة كي لا يعرفه أحد)..هذا الحديث الذي رواه مُسلم فيه عبرٌ عظيمة ووقفاتٌ ينبغي أن نعرفها.. أولُها أهميةُ البر بالوالدين وأثره فمما سمعناه في الحديث أن أويسَ القرني الذي يُعتبر أفضلُ التابعين في زمانه كما ورد في الحديث كان برّاً بوالدته وبرِّهُ بها منعه من السفر للقاء رسول الله مع أنه أدرك زمانه ومن هنا أصبح مُجاباً للدعوة حيث قال صلى الله عليه وسلم(له والدة هو بها برٌّ،لو أقسمَ على الله لأبَّره)جاء بحديثٍ صحيح(لَيدْخُلَنَّ الجنةَ بشفاعةِ رجل واحد من أمتي أقوامٌ أكثرُ من بني تميم) قال الحسن البصري..هو أويسُ القرني لفضله وبرّه وهنا نعرفُ عِظمَ البرِّ بالوالدين لأنّ الله قرنَ حقَّهما بحقه فقال (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إحساناً) والبرُّ بالوالدين عظيم والأمُّ اختصها الله بمزيد برِّ لبذلها وتعبها ومن ثمَّ حاجتها إليك.. حملتْك أمُّك-يا عبد الله-في أحشائِها تسعةَ أشهر وَهناً على وهن،حملتْك كُرهاً،ووضعتك كُرهاً،ولا يزيدُها نموُّك إلا ثقلاً وضعفاً..وعندَ الوضعِ رأتَ الموت بعينيها. ولما بَصُرت بك جانبَها سَرْعان ما نسيَتْ آلامها وعلَّقت فيكَ آمالَها..رأت فيك بهجة الحياة وزينتَها،ثم شُغلت بخدمتِك ليلها ونهارَها،تُغذِّيك بصحتِها..طعامُك دَرُّها وبيتُك حِجْرُها.. ومركبُك يداها وصدرُها وظهرُها. تُحيطك وترعاك..تجوعُ لتُشبعَك، وتسهرُ لتنام..رحيمةٌ عليك شفيقةٌ بك..إذا غابت عنك دعوْتَها..وإذا أعرضَت عنك ناجيتَها..وإذا أصابك مكروهٌ استغْثتَ بها..تحسبُ كلَّ الخيرِ عندَها..وتظنُّ الشرَّ لا يصلُ إليك إذا ضمّتكَ لصدرِها أو لحظْتك بعينِها!! أفلا يكون البر بها اذاً واجباً أما أبوك فأنت مجبنةٌ مبخلة يفرح بولادتك ويفاخر الآخرين بك أفلا يستحق البر حينما يكبر عندك؟والبر بهما لاينقطع بوفاتهما..بل بالدعاء وصلة أقاربهما وصديقهما والصدقة والإحسان إليهما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله.. إإذن لي بالجهاد في سبيل الله فقال له.. ألك والدة؟ قال نعم.. فقال الزمْها فإن الجنة عند قدميها)رواه النسائي هذا وهو جهادٌ واجب فكيف بمن ينشغلون عن والديهم بسبب زوجةٍ أو أصدقاء أو عمل..نقول هذا لمن يُقصِّرُ اليومَ بالبرِّ بوالديه لاسيما حينما يكبران ويحتاجان إليه فيَتقاعسُ عن خدمتهما وتلبية حاجاتهما ومؤانستهما وياحسرةً على من لم يُوفَّق فأصبح عاقَّاً بوالديه فخسر الدنيا و الآخرة ..وقفتُنا الثانية أن حديث أويس أصلٌ في جواز طلب الدعاء والاستغفار ممن عُرفَ بالصلاح والتقوى من الأحياء كما قرَّرَ العلماء وفعلَه عمر رضي الله عنه ومعه بعض الصحابة في تَتبُّعِ البحث عن أويس ثم طلبوا منه الدعاءَ لهم والاستغفارَ..
ثم وقفةٌ عظيمةٌ..كيف أن عمر رضي الله عنه خليفةُ المسلمين ومن المُبشَّرين بالجنة والثناءُ عليه كثير من رسول الله الذي كان يقول عليه الصلاة والسلام..دخلتُ أنا وأبوبكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر ومع كل ذلك يبحثُ بلهفةٍ عن أويس القرني كي يدعو ويستغفرُ له وهذا يدلُّنا على عدمِ اغترارِ الإنسان بعلْمِهِ أو مكانتهِ أو فضلهِ وعبادتِه..وأن يبحث دوماً باحثاً عن كل ما يُقوَّي إيمانَه ويزيدُ في علمِه ويرفعُ مكانتَه في الخير..فأين ذلك ممن يغترُّونَ بعلمهم ومكانتهم وعبادتهم ويتكاثرونها وقد لا يكون لها أثرٌ على إخلاصهم لله ولا على تصرفاتهم وأخلاقهم مع الناس..وأين ذلك ممن يُضيفون على أنفسهم الهالاتِ العظيمة والألقاب الجسيمة يتزيَّنونَ بها أمامَ الناس؟!هنا عمر رضي الله عنه يعطينا قدوةً أن لا نغترَّ وأن نبحث عن الحق والخير حيثما كان
وقفتنا الرابعة مع الحديث..كيف أنَّ أويساً القرني لما عرفَ بثنائه صلى الله عليه وسلم عليه وذِكْرِ فضلِه وإجابةِ دعائه طلبَ من عمرَ أن يُخفيَ ذلك عنه وألا يُشهرَه ولمَّا أخبر عنه عمر تفقَّداً له.. ولما خافَ أويسٌ أنَّ خبرَه قد يَشتهرُ توارَى عن الناس كي لا يفتتنوا به حتى اختلفوا أين ومتى مات!!. الله أكبر!!إنه درسٌ لكل من مَنَّ الله عليه بفضلٍ أو خيرٍ أو مكانة أو يَسَّره الله لمزيدِ عبادة ألَّا يتفاخرَ بذلك أو يستغلَّه لمصالِحه فهذا سببٌ لردِّ العملِ وعدمِ قبولِه..وإن ابتغى الرياءَ والسُمعةَ فذلك شركٌ أصغر ونفاق.. وهي رسالةٌ أيضاً لمن يستغلِّون ضعافَ العقولِ كي يُمجِّدُونَهم باسم الدين والعبادة أو العِلْم والجاه والمكانة ويَضعونَ لهم الهالاتِ والألقابَ بل وقد يتجاوزونَ عياذاً بالله ليُشركونَهم بعبادةٍ أو تعظيم مع الله كما نراه في أضرحةٍ وقبور وأولياء أمواتاً وأحياء..بينما المؤمنُ الحقيقي والمسلمُ العابد الصالح والعالم الربّانيُّ هو من يَبذلُ علمَه بتواضعٍ وإخلاصٍ ويعملُ العملَ بخفاءٍ غيرَ متفاخرٍ به يخاف الرياء وعدم القبول ويرجو الآخرة ورحمةَ ربِّه..
الوقفة الخامسة مع قصة أويس القرني أنه رغمَ كرمِ حالِه وبِرِّه بوالدتِه وفضلِ دعائه وما عُرفَ به من قيام وصلاة ابتلاهُ الله بالبرص ثم وفَّقَه أن يسألَ اللهَ الشفاءَ منه فَبرئَ منه إلا بقعةً كموضع درهمٍ منه كلما رآها تذكَّر نعمةَ الله عليه فمنْ عادةِ الإنسان نسيانُ نعمِ الله عليه التي يحيَاها ويتقلَّبُ فيها صباحَ مساء فإذا فقدها عرفَ قدْرها إلا من وفَّقَه الله لشكرِها ومعرفةِ قدْرِها..وهنا وقفة مهمة بأن نبيَّنا محمد صلى الله عليه وسلم لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحى بما ثبت عنه و قاله في السنة النبويّة.. فهاهو يُخبرُ عن أويسٍ القرني بخبرِ حقٍّ وصدقٍ وواقعٍ لا محالة ووصفَه كما وجدَه عمرُ والصحابة فلنؤمنْ إخوتي بالسنة النبوية الصحيحة كمصدرٍ ثانٍ للتشريع ولنحذرْ من أناسٍ نراهم اليوم يعبثون بالسنة النبوية ويتجَّرأون على نصوصها ويُخضُعونَها لعقولهم وأهوائهم فيُلبِّسون على الناس دينَهم ويفترون عليه نسأل الله السلامة والعافية..فالسنة النبوية واضحة صافية لكل من فهم معناها وأرادها..
عباد الله هذه قصةُ أويسٍ القرني من أهل اليمن جيراننا الذين هم أرقُّ قلوباً وألينُ أفئدةً ودخلوا في الإسلام دون قتال وممن نصروا الإسلام ووصف الله أرضَهم بأنها(بلدةٌ طيبة) والإيمانُ يَمان والفقهُ يَمان والحكمةُ يَمانيَّة كما في الحديث نسأل الله أن يُنجيَ بلادَنا وبلادَهم من فتنِ رافضةٍ حوثيين وطغاةٍ ومتطرفين وأن ينصرَ جنودَنا المرابطين باليمن وينصر الشرعية ويقيمُ الحقَّ والدين وينصره بجميع بلاد المسلمين(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)أقول ماتسمعون ...
الخطبة الثانية الحمد لله و حد ه و الصلاة .. و بعد..
عباد الله أنتم تعيشون أياماً فاضلة منها يومُ عرفة..يومُ عتق من النار ومباهاةٍ بالحجيج من الله للملائكة الكرام،قال عنه صلى الله عليه وسلم..(ما من يومٍ أكثرُ من أن يعتقَ اللهُ فيه عبيداً من النارِ من يومِ عرفة،وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول.. ما أراد هؤلاء؟) فيغفرُ الله فيه لكلَّ من وقف ومن لم يقف فيه ممن قَبل توبتَهم واستغفارَهم ولذلك شُرعَ لمن لم يحَجَّ أن يشاركَ أهلَ الموقف بالدعاء والرجاء قال صلى الله عليه وسلم..(خيرُ ما قلت أنا والنبيّون يومُ عرفة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) رواه الطبراني وكذلك الصيامُ لمن لم يحج قال صلى الله عليه وسلم..( يوم عرفة أحتسبُ على الله أن يُكفَّرَ السنةَ التي قبله وبعده) نسأل الله من فضله وعفوهثم يأتيكم عباد الله عيدُ الأضحى المبارك فاشهدوا الصلاةَ مع المسلمين التي ستُقام بالمصلَّيات وعددٍ من الجوامع ودخولُ الإمام سيكون الساعة السادسة فاسْعدُوا في العيد إخوتي وأسْعِدُوا من حولَكم وتقرَّبوا لله بذبح ضحاياكم على سنة أبيكم إبراهيم واجتهدوا في الأضحية واستسمنوها ولا تبخلوا بثمنها ولتكنْ سالمةً من العيوب وكلوا منها وأهدوا وتصدَّقوا وكبِّروا الله على ما هداكم وتقبَّل الله منا وإياكم..الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرةً وأصيلاً ..وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
وحي من الروح لا وحي من القلم *** هز المشاعر من راسي إلى قدمي
لما رأيت حجيج البيت يدفعهم *** شوق إلى الله من عرب ومن عجم
لبوا النـداء فما قرت رواحلهم *** حتى أناخوا قبيل الصبح بالحرم
لما راو والبيت حقا قال قائلهم *** مزجت دمعا جرى من مقلتي بدم
سرى إلى الروح روحانيه عذب *** فزال عنهم سواد الهم والسقم
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)كان الحج ولا زال عبادةً وتوحيداً لله ربِّ العالمين وملتقى لعموم المسلمين ورغم أنه عبادةً واجبةً على المسلم في العمر مرةً لمن استطاع إليه سبيلاً فقد جعله الله ركناً من أركان الإسلام الخمسة لأهميته وأثره على الإسلام والمسلمين نرى الأهمية من خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة التي أوصى بها الناس وشمل بها مبادئ الإسلام وكان يقول(اللهم هل بلغت اللهم فاشهد)..أدرك ذلك قادةُ المسلمين وعلماؤهم استثماراً لأثر العبادة واجتماع الحجيج في ترسيخ التوحيد ونبذ الضلالة وتقوية الإيمان ومحاربة الشرك والخرافة والتوجيه لجمع الكلمة وتركِ فُرقةٍ وتحزُّبٍ يورث خلافات..والتأمُّلُ في معاني الحج وأسراره وقَصصه وحِكَمِهِ لا ينقضي..واليوم نقفُ مع قصةٍ عجيبة من قَصص الحج بعهد الخليفة عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه إمامُ الحجيج وقتَ خلافته الذي كان يسألُ الوفودَ القادمة من اليمن كلّ عام عن قدوم رجلٍ سمع به يُقال له أويس القرني وفي أحد المرات قالوا له أن هناك رجلاً خامل الذكر أجيراً يرعى إبلاً لنا في أطراف مكة فذهب يتتبَّعه عمر فلما وجده سأله.. أأنتَ أُوَيسُ بنُ عامر؟ قال.. نعم، قال.. مِن مُراد ثم من قرَن؟ قال.. نعم، قال.. كان بك برص فبرأتَ منه إلا موضع درهم؟ قال.. نعم، قال.. ألك والدة؟ قال.. نعم، قال.. سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.. (يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، مِن مُراد ثمَّ مِن قرن، [أي بلقرن من أرض الجنوب]كان به برص فبَرَأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) فاستغفِرْ لي، فاستغفَرَ له، فقال له عمر.. أين تريد؟ قال.. الكوفة، قال.. ألا أكتبُ لك إلى عاملها؟ قال.. أكونُ في غَبْراءِ الناس أحبُّ إليَّ، فلما كان العامُ المقبل حج رجلٌ من أشرافهم، فوافق عمر فسأله عن أويس؟ قال.. تركتُه رثَّ البيت، قليل المَتاع، فأبلغه عمر بخبره وفضله وإجابة دعائه.. فأتى ذلك الرجلُ أويسًا فقال له.. استغفِرْ لي، قال.. أنتَ أحدثُ عهدًا بسفر صالح، فاستغفِرْ لي، قال.. استغفِرْ لي، فقال أويس ألقيتَ عمر؟ قال.. نعم، فاستغَفَرَ له، ففَطِن له الناس فانطلق على وجهه متوارياً عنهم، وكسَوْتُه بُرْدةً متواضعة كي لا يعرفه أحد)..هذا الحديث الذي رواه مُسلم فيه عبرٌ عظيمة ووقفاتٌ ينبغي أن نعرفها.. أولُها أهميةُ البر بالوالدين وأثره فمما سمعناه في الحديث أن أويسَ القرني الذي يُعتبر أفضلُ التابعين في زمانه كما ورد في الحديث كان برّاً بوالدته وبرِّهُ بها منعه من السفر للقاء رسول الله مع أنه أدرك زمانه ومن هنا أصبح مُجاباً للدعوة حيث قال صلى الله عليه وسلم(له والدة هو بها برٌّ،لو أقسمَ على الله لأبَّره)جاء بحديثٍ صحيح(لَيدْخُلَنَّ الجنةَ بشفاعةِ رجل واحد من أمتي أقوامٌ أكثرُ من بني تميم) قال الحسن البصري..هو أويسُ القرني لفضله وبرّه وهنا نعرفُ عِظمَ البرِّ بالوالدين لأنّ الله قرنَ حقَّهما بحقه فقال (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إحساناً) والبرُّ بالوالدين عظيم والأمُّ اختصها الله بمزيد برِّ لبذلها وتعبها ومن ثمَّ حاجتها إليك.. حملتْك أمُّك-يا عبد الله-في أحشائِها تسعةَ أشهر وَهناً على وهن،حملتْك كُرهاً،ووضعتك كُرهاً،ولا يزيدُها نموُّك إلا ثقلاً وضعفاً..وعندَ الوضعِ رأتَ الموت بعينيها. ولما بَصُرت بك جانبَها سَرْعان ما نسيَتْ آلامها وعلَّقت فيكَ آمالَها..رأت فيك بهجة الحياة وزينتَها،ثم شُغلت بخدمتِك ليلها ونهارَها،تُغذِّيك بصحتِها..طعامُك دَرُّها وبيتُك حِجْرُها.. ومركبُك يداها وصدرُها وظهرُها. تُحيطك وترعاك..تجوعُ لتُشبعَك، وتسهرُ لتنام..رحيمةٌ عليك شفيقةٌ بك..إذا غابت عنك دعوْتَها..وإذا أعرضَت عنك ناجيتَها..وإذا أصابك مكروهٌ استغْثتَ بها..تحسبُ كلَّ الخيرِ عندَها..وتظنُّ الشرَّ لا يصلُ إليك إذا ضمّتكَ لصدرِها أو لحظْتك بعينِها!! أفلا يكون البر بها اذاً واجباً أما أبوك فأنت مجبنةٌ مبخلة يفرح بولادتك ويفاخر الآخرين بك أفلا يستحق البر حينما يكبر عندك؟والبر بهما لاينقطع بوفاتهما..بل بالدعاء وصلة أقاربهما وصديقهما والصدقة والإحسان إليهما جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله.. إإذن لي بالجهاد في سبيل الله فقال له.. ألك والدة؟ قال نعم.. فقال الزمْها فإن الجنة عند قدميها)رواه النسائي هذا وهو جهادٌ واجب فكيف بمن ينشغلون عن والديهم بسبب زوجةٍ أو أصدقاء أو عمل..نقول هذا لمن يُقصِّرُ اليومَ بالبرِّ بوالديه لاسيما حينما يكبران ويحتاجان إليه فيَتقاعسُ عن خدمتهما وتلبية حاجاتهما ومؤانستهما وياحسرةً على من لم يُوفَّق فأصبح عاقَّاً بوالديه فخسر الدنيا و الآخرة ..وقفتُنا الثانية أن حديث أويس أصلٌ في جواز طلب الدعاء والاستغفار ممن عُرفَ بالصلاح والتقوى من الأحياء كما قرَّرَ العلماء وفعلَه عمر رضي الله عنه ومعه بعض الصحابة في تَتبُّعِ البحث عن أويس ثم طلبوا منه الدعاءَ لهم والاستغفارَ..
ثم وقفةٌ عظيمةٌ..كيف أن عمر رضي الله عنه خليفةُ المسلمين ومن المُبشَّرين بالجنة والثناءُ عليه كثير من رسول الله الذي كان يقول عليه الصلاة والسلام..دخلتُ أنا وأبوبكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر ومع كل ذلك يبحثُ بلهفةٍ عن أويس القرني كي يدعو ويستغفرُ له وهذا يدلُّنا على عدمِ اغترارِ الإنسان بعلْمِهِ أو مكانتهِ أو فضلهِ وعبادتِه..وأن يبحث دوماً باحثاً عن كل ما يُقوَّي إيمانَه ويزيدُ في علمِه ويرفعُ مكانتَه في الخير..فأين ذلك ممن يغترُّونَ بعلمهم ومكانتهم وعبادتهم ويتكاثرونها وقد لا يكون لها أثرٌ على إخلاصهم لله ولا على تصرفاتهم وأخلاقهم مع الناس..وأين ذلك ممن يُضيفون على أنفسهم الهالاتِ العظيمة والألقاب الجسيمة يتزيَّنونَ بها أمامَ الناس؟!هنا عمر رضي الله عنه يعطينا قدوةً أن لا نغترَّ وأن نبحث عن الحق والخير حيثما كان
وقفتنا الرابعة مع الحديث..كيف أنَّ أويساً القرني لما عرفَ بثنائه صلى الله عليه وسلم عليه وذِكْرِ فضلِه وإجابةِ دعائه طلبَ من عمرَ أن يُخفيَ ذلك عنه وألا يُشهرَه ولمَّا أخبر عنه عمر تفقَّداً له.. ولما خافَ أويسٌ أنَّ خبرَه قد يَشتهرُ توارَى عن الناس كي لا يفتتنوا به حتى اختلفوا أين ومتى مات!!. الله أكبر!!إنه درسٌ لكل من مَنَّ الله عليه بفضلٍ أو خيرٍ أو مكانة أو يَسَّره الله لمزيدِ عبادة ألَّا يتفاخرَ بذلك أو يستغلَّه لمصالِحه فهذا سببٌ لردِّ العملِ وعدمِ قبولِه..وإن ابتغى الرياءَ والسُمعةَ فذلك شركٌ أصغر ونفاق.. وهي رسالةٌ أيضاً لمن يستغلِّون ضعافَ العقولِ كي يُمجِّدُونَهم باسم الدين والعبادة أو العِلْم والجاه والمكانة ويَضعونَ لهم الهالاتِ والألقابَ بل وقد يتجاوزونَ عياذاً بالله ليُشركونَهم بعبادةٍ أو تعظيم مع الله كما نراه في أضرحةٍ وقبور وأولياء أمواتاً وأحياء..بينما المؤمنُ الحقيقي والمسلمُ العابد الصالح والعالم الربّانيُّ هو من يَبذلُ علمَه بتواضعٍ وإخلاصٍ ويعملُ العملَ بخفاءٍ غيرَ متفاخرٍ به يخاف الرياء وعدم القبول ويرجو الآخرة ورحمةَ ربِّه..
الوقفة الخامسة مع قصة أويس القرني أنه رغمَ كرمِ حالِه وبِرِّه بوالدتِه وفضلِ دعائه وما عُرفَ به من قيام وصلاة ابتلاهُ الله بالبرص ثم وفَّقَه أن يسألَ اللهَ الشفاءَ منه فَبرئَ منه إلا بقعةً كموضع درهمٍ منه كلما رآها تذكَّر نعمةَ الله عليه فمنْ عادةِ الإنسان نسيانُ نعمِ الله عليه التي يحيَاها ويتقلَّبُ فيها صباحَ مساء فإذا فقدها عرفَ قدْرها إلا من وفَّقَه الله لشكرِها ومعرفةِ قدْرِها..وهنا وقفة مهمة بأن نبيَّنا محمد صلى الله عليه وسلم لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحى بما ثبت عنه و قاله في السنة النبويّة.. فهاهو يُخبرُ عن أويسٍ القرني بخبرِ حقٍّ وصدقٍ وواقعٍ لا محالة ووصفَه كما وجدَه عمرُ والصحابة فلنؤمنْ إخوتي بالسنة النبوية الصحيحة كمصدرٍ ثانٍ للتشريع ولنحذرْ من أناسٍ نراهم اليوم يعبثون بالسنة النبوية ويتجَّرأون على نصوصها ويُخضُعونَها لعقولهم وأهوائهم فيُلبِّسون على الناس دينَهم ويفترون عليه نسأل الله السلامة والعافية..فالسنة النبوية واضحة صافية لكل من فهم معناها وأرادها..
عباد الله هذه قصةُ أويسٍ القرني من أهل اليمن جيراننا الذين هم أرقُّ قلوباً وألينُ أفئدةً ودخلوا في الإسلام دون قتال وممن نصروا الإسلام ووصف الله أرضَهم بأنها(بلدةٌ طيبة) والإيمانُ يَمان والفقهُ يَمان والحكمةُ يَمانيَّة كما في الحديث نسأل الله أن يُنجيَ بلادَنا وبلادَهم من فتنِ رافضةٍ حوثيين وطغاةٍ ومتطرفين وأن ينصرَ جنودَنا المرابطين باليمن وينصر الشرعية ويقيمُ الحقَّ والدين وينصره بجميع بلاد المسلمين(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)أقول ماتسمعون ...
الخطبة الثانية الحمد لله و حد ه و الصلاة .. و بعد..
عباد الله أنتم تعيشون أياماً فاضلة منها يومُ عرفة..يومُ عتق من النار ومباهاةٍ بالحجيج من الله للملائكة الكرام،قال عنه صلى الله عليه وسلم..(ما من يومٍ أكثرُ من أن يعتقَ اللهُ فيه عبيداً من النارِ من يومِ عرفة،وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول.. ما أراد هؤلاء؟) فيغفرُ الله فيه لكلَّ من وقف ومن لم يقف فيه ممن قَبل توبتَهم واستغفارَهم ولذلك شُرعَ لمن لم يحَجَّ أن يشاركَ أهلَ الموقف بالدعاء والرجاء قال صلى الله عليه وسلم..(خيرُ ما قلت أنا والنبيّون يومُ عرفة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) رواه الطبراني وكذلك الصيامُ لمن لم يحج قال صلى الله عليه وسلم..( يوم عرفة أحتسبُ على الله أن يُكفَّرَ السنةَ التي قبله وبعده) نسأل الله من فضله وعفوهثم يأتيكم عباد الله عيدُ الأضحى المبارك فاشهدوا الصلاةَ مع المسلمين التي ستُقام بالمصلَّيات وعددٍ من الجوامع ودخولُ الإمام سيكون الساعة السادسة فاسْعدُوا في العيد إخوتي وأسْعِدُوا من حولَكم وتقرَّبوا لله بذبح ضحاياكم على سنة أبيكم إبراهيم واجتهدوا في الأضحية واستسمنوها ولا تبخلوا بثمنها ولتكنْ سالمةً من العيوب وكلوا منها وأهدوا وتصدَّقوا وكبِّروا الله على ما هداكم وتقبَّل الله منا وإياكم..الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرةً وأصيلاً ..وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً