• ×

08:04 صباحًا , الإثنين 21 جمادي الثاني 1446 / 23 ديسمبر 2024

نظارةُ سوداء

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله جعل الدلالة على الخير أفضل القربات،وأشهد أن لا إله إلا الله أمر عباده بنبذ سوء القيم في كل الأوقات،وأشهد أن محمداً رسول الله تميّز بأحسن الصفات صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الممات وسلم تسليماً أما بعد..فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الحياة بُنيت على كدرٍ والبعضُ يريدُها صفْواً خاليةً من المعاناة والصعوبات والفتن والمشكلات ومع كل ذلك فقد أُمرنا في الإسلام بالتفاؤل لأنه سببٌ لحصول الخير بإذن الله (تفاءلوا بالخير تجدوه)ومن أعظم التفاؤل النظرةُ الإيجابية لكلِّ ما يُصلحُ المجتمعَ ويُوجهه للخير ويبعد عنه الشر وضدُّ ذلك التشاؤم الذي يكون بنظرةٍ سلبيةٍ سوداء تغلق أمام ناظرها كلَّ شيءٍ حسن..وكأنَّ صاحبَها يلبسُ نظارةً سوداءَ يَرى من خِلالِها السوء فقط ويُهمل الحسن..يُكثر من النقد بلا وجهِ حقٍّ..وتستثيره الفتن والتصرفات التي لا تعجبه في كلِّ وقتٍ فهؤلاء بنظرتِهم السلبية هذه معاولَ هدمٍ لا بناء..يُفرّقون المجتمع ويقوّضون المنجزات حتى بحياتهم الخاصة لا يستمتعون بها بنظرتهم هذه!!يتخذون من الأحداث والملمات العظيمة والمصائب الأليمة تبريراً لقعودهم وسبباً لتشاؤمهم هذا إما بأنفسهم بما يصيبهم من حوادث وأمراض في أنفسهم وأولادهم وأموالهم أو بما يُلمُّ بالأمةِ من مصائب وأحداث فيحتارون بالتعاملِ الشرعيِّ لها ثم يزيدون مصابَها وأثرها عليهم بتشاؤمهم وسوء نظرتهم هذه!!وهناك من اقتصر الدين كلَّه على التخويفِ والتهويل ويهمل نشر الرجاء والبُشرى برحمة الله من ضيق أفقه وتشاؤمه!!سبحان الله أليس لهم في رسول الله قدوة؟!الذي نراه يزدادُ فألاً ونظرةً إيجابية في أشدِّ المواقف أزمة..ففي مكة يأتونه الصحابة يشكون ظلم الناس وعذابهم ويقولون يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟!فيقول[لقد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين،ما يصده ذلك عن دينه،واللهِ ليتُمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون]رواه البخاري ويبشرهم وهم يتألمون..يرجعُ من الطائف مهموماً محزوناً من أذاهم مع أهل مكة فيقول له الملك يارسول الله لئن شت لأطبقنَّ عليهم الأخشبين فيرفض عليه الصلاة والسلام لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً..وفي رحلة هجرته يُبشر سراقةَ بسواريْ كسرى وهو ملاحق،وفي بدر يبشرهم بالنصر وفي الخندق محاصرون فيتحدثُ لهم ويبشرهم بفتح فارس والروم واليمن إيجابيته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع صحابته وتربيتهم على حسن الظن ورؤية أحسن ما في الناس رغم أخطائهم فيؤتى بأحد الرجال ليُجلد في الخمر فيقول أحدهم قاتلة الله ما أكثر ما يجلد بالخمر فيقول ذاكراً فضله ومُعزِّزاً إيجابيّته[لاتعينوا الشيطان على أخيكم فو الله إنه يُحبُّ الله ورسوله]حتى مع غير المسلمين الذين لا يُعادون يذكرُ أحسن صفاتهم فيثني على حاتم الطائي بالكرم ويجعله شفيعاً لابنته..ويثني على شعر لبيد بن ربيعة قبل إسلامه ويمدح النجاشي ويرسل أصحابه له فهو ملك لا يظلم عنده أحد ويتمنى لو شارك بحلف الفضول لأثره في الإصلاح..والأمثلةُ النبوية كثيرة تدعونا دوماً للعمل بتفاؤل والنظر بإيجابية للناس ولكل جوانب الحياة ومصاعبها ليَسهل علينا أثرها ونتخذ منها منطلقاً للحلول..عكس ذلك التشاؤم والنظر بسلبية فما يزيد إلا وهناً للأفراد وضعفاً للمجتمعات..وتعظيماً للمصاب..
أيها الإخوة..التفاؤل والنظرة الإيجابية ليست مجاملةً مذمومة لمن لا يستحق ولا مبالغةً في المديح فهذا كلّه ضررٌ ونفاق للأفراد والمجتمع والمسؤولين وغشٌ للأمة فالتفاؤلُ بنبذِ الكسلِ والمللِ وقولِ الحق والعدْل والمشاركةِ بالعمل فيما يخدم الدين والناس والأوطان..والنقدِ بعقلٍ وإيجابية وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ لكل ما تراه خطأً إذا استوعبتَه ودرستَ عواقبَه وكانت نيّتُك فيه حسنةً وابتعدتَ فيه عن الظنون السيئة فستكونُ حينذاكَ مُساهماً بالإصلاحِ وبنصرةِ دينِك وبناءِ مُجتمعِك وحمايةِ وطنك وأولئك هم المفلحون(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)..
من المؤسف إخوتي أن كثيراً من تصرفاتِ مجتمعاتنا تَطْغَى عليها النظرةُ السلبيةُ الجائرةُ والأحكامُ السيئةُ المسبقة التي تتحكّمُ بتصرفاتِ الكثيرين منا حتى خسرنا بعضنا بعضاً وتنازعنا وفشلنا فالبعض متشائمُ في حياته وما يصيبه فينزوي ويَتعقَّد وآخرون لا يُطيقون لأحدٍ نجاحاً يستحقُّه ويُقلِّلُون من شأنِه يغمطون الحسنات ويُكبِّرون الأخطاءَ والزَلاَّت..وليتهم انشغلوا ليصلحوا ما لديهم من أخطاء وصفات ثم لا يدركُون عاقبةَ سلبيتهم هذه وسوء نظرتهم وأثرها عليهم والمجتمع في تقوية المنكر وشيوع الفساد والخطأ وتعميمه وضعف الإصلاح والتقدّم والبناء وتقزيمه[ومن قال هلك الناس فهو أهلكُهم]بعضهم مع نظرته السوداوّية وتشاؤمه مما يحصل لا يعمل ولا يجتهد بل لا يتركُ أحداً يعملُ أو يجتهدُ..ويبثُ دوماً اليأسَ والإحباطَ في مجالسهِ وطرحِه..ويحتقرُ أيَّ جهدٍ ويستصغرُه فقط لأنه لم يعجب مزاجه فالذّم أحبُّ إليه من المدح وتراه عنيفاً ويبالغ في الذم بخيلاً في المدح بحق ولا يأبه بجهدٍ ولا إصلاح..وهكذا فقد أصبحَ عوناً لكل حاقد عدواً لكل ناصح شعر أم لم يشعر يدعو للمنكر و لا يرى بأساً به يجهل المعروف و لا يأبه له..هؤلاء بسلبياتِهم وسوءِ ظنونهم وتصرفاتهم يهدمون المجتمع وانظروا إلى وسائل التواصل لدينا في بعض طرحها مؤخراً كيف أظهرت سلبيةً واضحةً وتشاؤماً ظاهراً ومُسارعةً في الفتنة فبعضُهم من خلالها ينشر ما يُسيءُ للناس ويستهزئُ بهم بلا مبالاة يَعدُّهُ مِزاحاً ثم يُسارعُ آخرون في فتن الخلافات والعصبيات والانتقام والثأرات لمجرّد استشارتهم من أحد السفهاء ولولا الله ثم العقلاء لم ينتبهوا!!وطرحٌ آخر يُبالغ في الأخطاءِ ولا يُساهم في البناء..ينشر المنكر ويُشهره ويُخفي المعروف ولا يذكره فأيُّ سلبيِّةٍ أعظمُ من ذلك؟!وأين نحن من إيجابية التفاؤل والظنِّ الحسن والتآلف والرحمةِ والتعاونِ على البرِّ والتقوى وتعزيزِ القدراتِ الإيجابيِّة لدى الناس بذكر محاسنهم وتجاوز سيئاتهم ما لم تضرّ وشكر الدوائر العاملة بجدٍّ لتشجيعهم والموظفين المخلصين ليُقتدى بهم حتى ولو كان ما يؤدّونه واجباً عليهم لكننا نشكر لهم إخلاصهم واجتهادهم بدلاً من كثرة انتقادهم بلا فائدة..
إن القرآن الكريم يعرضُ لنا نماذج الإيجابية داعياً إليها مثنياً عليها فيقول الله تعالى (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) ثم يسوق لهم الحجج ليقنعه بتوحيد ربِّ العالمين(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ)ومريم ابنة عمران رغم صعوبة حملها ووضعها مدعوّة للمساهمة بإيجابية(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) دعوة كاملة للإيجابية ونبذ اليأس والسلبية،ويقول عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر مشجعاً[نعم العبد عبد الله لو كان يقوم الليل] ويوكل المهامَّ لصحابته كباراً وصغاراً مستغلاً ومُوظفاً قدراتهم الإيجابيّة،وقال صلى الله عليه وسلم [المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنِّي فعلت كان كذا وكذا،ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان]رواه مسلم واليوم نرى الإيجابيَّةَ من أُناسٍ ينظرون للحياة بتفاؤل رغم صعوباتها ليقدّموا الخيرَ للغير لا يأبهون بجهود مفسدين ولا كلام محبطين تراهم ناصرين للدين بناةً للأوطان بخطىً ثابتةٍ واثقةٍ وبرؤيةٍ عميقةٍ ثاقبة أولئك هم الإيجابيون (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)هذا فضل الله بالسعي للخير وبذل العمل والنظر للحياة بإيجابية مع الثقة بالله أولاً وأخيراً(وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى)وبذلُ الخير يكونُ حسب طاقتك وقدرتك ومواهبك..والأجر العظيمُ والنجاحُ الكبيرُ نفسياً ومعنوياً يكون في الإيجابية ونبذِ السلبيّة وعدمِ النَظرِ للحياةِ بسوداويّة والله خلق الناس متفاوتين فاختر لنفسك ما ينصرُك ويشِّجعُك وجنَّبهْا ما يُضعفُك ويوهنك وهكذا الناس متفاوتون(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)اللهم ألّف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا..واهدنا سبل السلام..وجنبنا الآثام..أقول ما تسمعون
الخطبة الثانية..الحمد لله وحده
أيها الأحبة..السلبيَّةُ والإيجابيةُ الموجودةُ في الإنسان تتأثر ولا شك..حسبَ قوّةِ الإيمانِ بالله والتوكّلِ عليه وتتأثرُ سلباً أو إيجابياً بمواقفِ الحياةِ التي تحدث له إما بما يصيبه في نفسِه ومالِه أو مما يصيبُ مجتمعَه وأمَّته وتعامل الإنسان مع مُصابه حسبَ دينه وخلقه انظروا لذلك مثلاً حادثةً عظيمةً مرّت بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحابته في المدينة كانت اختباراً كبيراً لأخلاقهم وإيجابيتهم وسلبيِّة قلةٍ منهم تابوا منها ألا وهي حادثةُ الإفك تكلّم عنها القرآن في عشر آياتٍ أعطت الأمة حينذاك وإلى اليوم دروساً عظيمة في النظرة السلبية والإيجابية لما يقع من أحداث ولمن نالَ من عرض النبي وخاض مع الخائضين فيه تأثراً بعمل المنافقين الذين تولَّى كِبْرَه رأسُهم فتلقّوه هؤلاء بألسنتهم وقالوا ما ليس لهم به علم ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم..هؤلاء تعاملوا معه بسلبيّة أما الإيجابيّون فنظروا للأمر بإيجابية وقالوا(مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)فأحسنوا الظن وكفّوا ألسنتهم عن الطعن وانتظروا حتى انجلى الأمر ليظهر فضل الله العظيم وبراءته الكبرى لعائشة رضي الله عنها فكان ذلك درساً وعِظةً لنا عبر الزمن بأن ننظر بإيجابية ونحكم بحسن الظن نستخرج من الناس أحسنَ ما فيهم حتى ولو كانوا على خطأ وتقصير..فإذا رأيت من أحدٍ خطأً فاغمرهُ في جانب حسناته واستره..وما تراه من إحسانٍ ومعروفٍ فأشهره..ولا تكن كالذباب لا يقع إلا على ما ساء وكُن كالنحل يقطف من كل زهرةٍ جميلةٍ رحيقاً هذه الإيجابيّة للمسلم الحق..
اللهم اجعلنا ممن يُحسن الظن بعبادك ويحسن إليهم وجنبنا إساءة الظنون وما شان من الأخلاق يا أرحم الراحمين..

 0  0  637

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.