الحمد لله وحده،وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له،وأشهد أنَّ محمّدًا عبدُ الله ورسوله،صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا..أما بعد فاتقوا الله عباد الله ..
حديثنا اليوم,عن البرِّ والإحسان,ليس عن برِّ الأُمهات,فذلك مما تُجعلُ له الأيام ويُذّكّرُ به كثيراً بالكلام..ومن تكلَّم عن البرِّ ويَذكرُ حقَّ الأُم التي صبرت حين حملت,وتعنّت حين وضعت,وكم عانت حين غذّتْ وربّت,إنَّها الأم ما أعظمها وحقُّها لا يختلف فيه اثنان,والمقصِّرُ فيه محرومٌ أعظم حرمان,ولكن كلُّ أحدٍ عليه بعدَ حق الله حَقَّان,حقٌ لأمه بيّن وحقٌ لأبيه مُتعيّنٌ,لكن ألا ترون إخوتي أن الحديث عن حقِّ الآباء قليل..مع أن الله قرنهما وهما في الأفضلية والبرِّ سواء..
يتغنّى ببرِّ أُمه,بقربه منها وإحسانهِ لها,لكنه مع والده جفاء وتقصير وقلة تقدير فيُقال له.. تالله ما قمت بحق البرِّ,بِرُّكَ بأمِّكَ ناقصٌ خداج, وأنت مُقصِّرٌ في حقِّ أبيك!!وهذا فهمٌ خاطئ نراه لدى بعض الناس الآن,حين يَرى البرَّ بِأمه وسماع رأيها فقط..وربما قصَّر مع أبيه وأهملَ أمره..وقد يعتذر البعض بانشغال أبيه عنه وعدم ظهور حنانِه وينسى أن طبيعةَ الرجولةِ تقتضي شدّة وغلظة..يزينها الحزمُ والحكمة وهي لا تلغي العطفَ والرحمة فكم من آباءَ نعرفهم بأنهم يساعدون على البرِّ برحمتهم ورقّتهم فأين أولادهم منهم؟حتى لو قصَّر معك أبوك وربما قسى وأغفل وتجاهل فكيف يكون برك بلا معاناة وصبر إذن..أما مقاطعته وعدمُ تحمُّلِه فتلك جناية وعقوق..سألت شيخنا ابن عثيمين رحمه الله وقدّس روحه عن أبٍّ يؤذي أولاده وربما يُكثر الدعاء عليهم ولا يستقبلهم أهم في حلٍّ من الصلة والتواصل معه فقال..الله أكبر وكيف يبتغون الأجر إذن إن لم يتواصلوا ويبّرون به حسب استطاعتهم ويصبرون!!
إن نصوص القرآن والسنة تأمر ببر الوالدين جميعاً(واعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)(ووَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ)فما بال بعضنا لا يعرف بالبرِّ إلا أمَّه,يجلس معها الأوقاتَ الطوال فإذا جاء والده انشغل بجهازه,أو تململ من مجلسه,يخرجُ لرفاقه في حين أن والده يفرحُ بلحظاتٍ يقضيها مع أولاده وهنا استثني البنات الحبيبات اللطيفات ممن تعشق أبيها وتبرُّ أمَّها أيضاً لكنها حنونة لا تفرّق بينهما نسأل الله أن يقدرنا كآباء وإخوة على القيام بحقوقهن وواجبهن..
أخي..أبوك يُمضي النهارَ ساعياً في تأمين نفقتك,بين وظيفة ومَشقَّة كم تعنَّى وتعب,كم أذلّ نفسه لتعتز أنت,وأتعبها لترتاح أنت,وسال عرقُه لتنعم,وجاع لتشبع,وخاف لتأمن,وتغرّبَ لتُقيَم آمناً مُطمئنَّاً..
معشر الكرام..صورُ البرِّ الرائعة بالآباء كثيرةٌ,فإسماعيل عليه السلام,يرعاه أبوه منذ صباه,وربَّاهُ وغَذَاه,ولما بلغ معه السعي,وأراد المولى سبحانه أن يمتحن الأب في حبّه إياه, أتته الرؤيا بأمرٍ في غاية الامتحان.. اذبح ولدك أنتَ ولا تُوكِلَ ذلك لغيرك,فما أصعبَه من امتحان,فكان الابنُ نعمَ المُعين لأبيه,وهذا البرُّ بإعانة والده على طاعة ربه(يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) فأذاق اللهُ إبراهيمَ برَّ ولدِه حين كان باراً بأبيه, ناصحاً له,ساعياً في إصلاحه,(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) وظل ناصحاً رغم رفضه وتهديده (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) وكما يقول الناس [البرُّ أسلاف] فما تفعله بوالديك سيرتدُّ إليك..روى مسلم في صحيحه أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بَيْنَمَا هُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارِ، إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ - وَكَانَ صَدِيقًا لأَبِيهِ عُمَرَ -،فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَأَلْبَسَهُ عِمَامَتَهُ، ثُمَّ قَالَ.. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ..«إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ،وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ"
تلك صور الأمس, وأما صور اليوم فأكثر من أن تحصر,نراها في صبحنا ومسائنا من أقوامٍ مُوفَّقين بارين بآبائهم..يناظرون خواطرهم..ويجبرون كسرهم فما أهناهم بالأجر العظيم..ينفقون على آبائهم وذلك أقل الواجب ويسعدونهم بالجلوس معهم..إذا توظف أحدهم واستلم راتبه أسعد أباه بماله..يُؤثِرُ والدَه على أولاده ولا تنسوا قصَّةَ أصحاب الصخرة كيفَ فرَّجَها الله قليلاً لمن قدّم والديه باللبن على أولاده..وبعضهم يُداري والده رغم خسارة المال وضيق الحال..ويقول أبتاه أبشر بالمال..فالله أكبر ما أعظمها من أفعال!!كيف لا؟؟وقد تعب في صباه عليك..يروح ويغدو وأنت طفلٌ رضيع..هذا هو أبوك يا ولدي..
أبٌّ يبلغ به الخَرَفُ مَداه..لينطق بكل لفظٍ من قلِّة ذكراه..كلمات غليظة..وبصق في الوجه..نعم بصق!!وإذا بولده يتحمل كل ذلك ويصبر..فقيل له هنيئاً لك البرّ فقال والله ما صنعنا شيئاً صبروا علينا في صبانا وهم مستمتعين،أفلا نصبر على قسوتهم وهم على مقربة الرحيل..
أعرف أناساً قريبين كان والدهم لنا أباً حنوناً يستقبلنا ويُضحكُنا ويؤنسنا فلما بلغ معه الهرم واهتزّت حركته وصعب لفظه تفنّن أولاده ببره بكل ما يُحب حتى لم يدرك عجزه فيارب ارحمه واجز بالخير عياله..وآخرُ بلغ المائة يتقلب بين برِّ أولاده وإسعاده شاركتهم ذلك فعلّموني قصوري ودلّوني على الخير..وأحد الشعراء والمشهورين أبوه الكفيف فيه عصبيّة وحرارة فكان إذا غضب يأتي ولده أمامه ثم يبرد خاطره بضربه أو لفظه حتى يهدأَ رحمه الله ويقول رجلٌ مسنّ توفي قريباً أنه كان في طريقه للحج وعلى الرواحل والأقدام, فاحتاج والده المسنّ الخلاء,فانعزلوا عن القافلة وحين فرغ وإذ بالقوم مشوا وابتعدوا, فحمل والده على كتفه ليَلحقَ بهم, يقول فبكى ثم,رفعتُ رأسي إليه وقلت والله ما أتعبني يا أبتي, فقال لا والله, ولكني حملتُ والدي هكذا قبل أعوام ونحن راحلين للحج..نعم..هؤلاء يبينون كم نحن مقصرون ببرِّ والدينا..فأشعروا أنفسكم دوماً بذلك ليكون دافعاً لكم بالبر..
وفي مقابل صور مشرقة للبرّ كم وكم من قصورٍ في حقّ الآباء,إذا حدّثه ولده فبتعالي, وإذا أمره أبوه ما بالاه, إن حلّ الأبُ في البيت ما وجد مَنْ يُجالسه أو أشغلوه بالطلبات,وإن أراد أمراً توارى الولدُ خوفاً من تكليف أبيه له,بينما تراهم مسارعين بخدمة أصحابهم ولو بسفرٍ وتعب!!وإن أطاعه أطاعه على مضض ويودّ لو أن غيره كفاه, وكل هذا ليس من البر..وأسوأ من ذلك من يرفع الصوت على أبيه, أو يقابل أوامره بالرفض,أو يسخر من أبيه في قوله أو حاله,ويسميّه بالشايب أو يقول..اتركه خرّف وهذرى..أما المصيبةُ فمن أغواه الشيطان حتى بلغ به الطغيان أن يرفع يده على أبيه, نعوذ بالله من الخذلان..فيا أيها المخذول يا عاقاً بوالديه..أحينما كبر أبوك وضعف جسمه وسمعه وبصره واحدودبَ ظهرُه أهملته وما راعيت حقّه..حتى لو كان مُقصراً..فليس عذراً لك!!فاصح وانتبه..فو الله إنه كما قال العوام البرُّ [مدُّ باليد] وسيفعل بك أولادك ما فعلت بوالديك أضف إليه عقوبة الله عليك..
جاء أعرابيٌّ لبعضِ الخُلفاءِ يَبكي،فقال له..ما بك؟قال..أُصِبتُ في ولدي بأعظمَ من كل مصيبة, قال..وما ذاك؟قال..ربّيتُه وسهرتُ لينام،وأشبعتُه وجعت،وارتاح وتعبت،فلما كبُر وأصابني الدهر واحدودب الظهر تغمَّط حقي،ثم بكى وقال..
وربيتُه حتى إذا ما تركتـــــــــــــــــــــه ******أخ القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمّط حقي ظالماً ولوى يدي *****لوى يده الله الذي هو غالبـــــــــــــــــــــــــــــــــه
فهل رأيت أعظم حرماناً ممّن عقّ أباه, ألا يخشَ العقوبة,وفي الحديث المروي "بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق" صححه الألباني اللهم وفقنا للبر بوالدينا واعصمنا من العقوق والبغي..أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد..
يا كُلَّ من رزق أباً هو اليوم على قيد الحياة والله وتالله إنك لفي نعمة عظيمة, توشك أن ترحل, ما دام أبوك حياً فلك إلى الجنة باباً,كما أن أمك تفتح لك بالبرِّ أبواباً ولن يعرف قدر هذه النعمة إلا من جرب فقد الأب,قال صلى الله عليه وسلم[الوالد أوسط أبواب الجنة،فإن شئت فأضع هذا الباب أو احفظه] رواه الترمذي وصححه الألباني وسلْ من فقد أباه فأظلمت الدنيا في عينيه, حين فقد سنده, فليس في الدنيا من يسندك ويسعد لعلوِّك وفرحك وحزنك مثل أبيك فكم افتقدوهم
أَبَتِي وَحِيدًا صِرْتَ تَحتَ التُّرْبِ فِي قَبْرٍ بَعِيدٍ ضَائِعِ الْعِنْوَانِ
مَا دُمْتُ حَيًّا لَسْتُ أَنسَى عِندَمَا أَقصَاكَ لَيْلُ الْقَبْرِ عَنْ أَحْضَانِي
رَحَلَ الَّذِي يَبكِي بِلا دَمْعٍ إذَا سَمِعَ الأَنِينَ يَجُولُ فِي وِجْدَانِي
رَحَلَ الَّذِي لا يَغْمَضُ الْجَفْنُ الْكَلِيلُ لَهُ إذَا دَمَعَتْ أَسىً أَجْفَانِي
أيها الشاب..البر دينٌ سترى أثره في أولادك, وهو قبل ذلك وفاءٌ لمن أحسن إليك, وهو قربةٌ وطاعة لله وبوابة أجر, وفي الحديث«رضى الرب في رضى الوالد، وسخطه في سخط الوالد»رواه ابن حبان برُّك بابيك سعيك في تلبية حوائجه وأن تفرح حين يأمرك أنت, ويخصك أنت من بين إخوتك بتلبية طلبه..صلاحُ نفسك, واستقامتُك لأمر ربك, وبعدك عن الشرّ,وبعدك عن المعاصي من أعظم البر بأبيك.سعيك في نفع الناس والزمان وجهدك لرفعة الأمة والأوطان من أعظم البر له فلمثل هذا ربَّاك, ولمثل هذه المواطن أُمّك هيأتك,ليفخروا بك وليكونا مشاركين لك في الأجر..برك بأبيك أن تحرص على الجلوس معه,ومرافقته والصبر على ذلك وإيناسُه بحسن حديثك, وإدخال السرور عليه ببقائك,سيما إذا كبُر وترحّل رفاقه, واحتاج لأولاده..إذا رأيت ما يسعدْه فافعله تنلْ الأجر وتسعد..برك بأبيك بتفقّدِ حاجاتِه وأن توسع عليه عند احتياجه, فكم أحسن إليك وأنفقك,برك به أن تحتمل عتابه, وتصبر على حدّته, وأن يراك حيث يُحب, وأن تكون رفيقاً له إن رغب في ذهابه ورواحه واحذر ثم احذر أن يتحسَّر أبوك على فعل لك وتصرف وإهمالك له رغم برّه بك!! وربما ترى أباك مقصراً في حق الله,فإياك أن تستصغره لذلك فمن أعظم البر أن تعينَه على نفسه,وتوجهه وتُذكَّره,ولكن بمراعاته فهو أبوك وأنت ابنه وهو كبير وأنت الصغير,فاختر للنصح أفضل العبارات وأنسب الأوقات..ومن الأولاد من يُبخلُ أباه, فإذا رآه منفقاً في سبيل الخير والوقف ثبَّطه, وبخّله, وليس ذلك بِرّاً,بل البر بإعانته على الخير,وفي الحديث"الولد مجبنة مبخلة"واعلم أيها الموفق أن البرَّ لا ينقطع بالوفاة, فبرك بأبيك بعد وفاته أن تصل أقاربَه, وتحسن لهم وتتفقد أصحابه و من أبرّ البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي"ودعاؤك له أعظم البر,وهو عمل صالح يأتيه في قبره,ويحقق لك معنى[ولد صالح يدعو له] فكم نصيب والديك حيّهم وميتهم من دعواتك ثم اعلم أنك اليومَ ابنٌ وغداً أبٌ,فاختر لأولادك معك من خلال برك بأبيك, والبِرُّ كلُّ إحسان من قول أو فعل أو شعور..وَيَا ولدي كما قلت لك أين منك أبوك..فأقول..أين عنك أبوك..فاهتموا أيها الآباء بأولادكم..لا تغيبوا عنهم كثيرآ وتحمّلوهم وأدبوهم وربوهم..فهم من سيمثلونكم..إنها يا كرام كلماتُ وفاء في حق الآباء, ونحن على يقين أن حقَّهم أكبرهم, وقدرهم أعظم,فاللهم وفقنا للبر بوالدينا أمواتاً وأحياءً..
حديثنا اليوم,عن البرِّ والإحسان,ليس عن برِّ الأُمهات,فذلك مما تُجعلُ له الأيام ويُذّكّرُ به كثيراً بالكلام..ومن تكلَّم عن البرِّ ويَذكرُ حقَّ الأُم التي صبرت حين حملت,وتعنّت حين وضعت,وكم عانت حين غذّتْ وربّت,إنَّها الأم ما أعظمها وحقُّها لا يختلف فيه اثنان,والمقصِّرُ فيه محرومٌ أعظم حرمان,ولكن كلُّ أحدٍ عليه بعدَ حق الله حَقَّان,حقٌ لأمه بيّن وحقٌ لأبيه مُتعيّنٌ,لكن ألا ترون إخوتي أن الحديث عن حقِّ الآباء قليل..مع أن الله قرنهما وهما في الأفضلية والبرِّ سواء..
يتغنّى ببرِّ أُمه,بقربه منها وإحسانهِ لها,لكنه مع والده جفاء وتقصير وقلة تقدير فيُقال له.. تالله ما قمت بحق البرِّ,بِرُّكَ بأمِّكَ ناقصٌ خداج, وأنت مُقصِّرٌ في حقِّ أبيك!!وهذا فهمٌ خاطئ نراه لدى بعض الناس الآن,حين يَرى البرَّ بِأمه وسماع رأيها فقط..وربما قصَّر مع أبيه وأهملَ أمره..وقد يعتذر البعض بانشغال أبيه عنه وعدم ظهور حنانِه وينسى أن طبيعةَ الرجولةِ تقتضي شدّة وغلظة..يزينها الحزمُ والحكمة وهي لا تلغي العطفَ والرحمة فكم من آباءَ نعرفهم بأنهم يساعدون على البرِّ برحمتهم ورقّتهم فأين أولادهم منهم؟حتى لو قصَّر معك أبوك وربما قسى وأغفل وتجاهل فكيف يكون برك بلا معاناة وصبر إذن..أما مقاطعته وعدمُ تحمُّلِه فتلك جناية وعقوق..سألت شيخنا ابن عثيمين رحمه الله وقدّس روحه عن أبٍّ يؤذي أولاده وربما يُكثر الدعاء عليهم ولا يستقبلهم أهم في حلٍّ من الصلة والتواصل معه فقال..الله أكبر وكيف يبتغون الأجر إذن إن لم يتواصلوا ويبّرون به حسب استطاعتهم ويصبرون!!
إن نصوص القرآن والسنة تأمر ببر الوالدين جميعاً(واعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)(ووَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ)فما بال بعضنا لا يعرف بالبرِّ إلا أمَّه,يجلس معها الأوقاتَ الطوال فإذا جاء والده انشغل بجهازه,أو تململ من مجلسه,يخرجُ لرفاقه في حين أن والده يفرحُ بلحظاتٍ يقضيها مع أولاده وهنا استثني البنات الحبيبات اللطيفات ممن تعشق أبيها وتبرُّ أمَّها أيضاً لكنها حنونة لا تفرّق بينهما نسأل الله أن يقدرنا كآباء وإخوة على القيام بحقوقهن وواجبهن..
أخي..أبوك يُمضي النهارَ ساعياً في تأمين نفقتك,بين وظيفة ومَشقَّة كم تعنَّى وتعب,كم أذلّ نفسه لتعتز أنت,وأتعبها لترتاح أنت,وسال عرقُه لتنعم,وجاع لتشبع,وخاف لتأمن,وتغرّبَ لتُقيَم آمناً مُطمئنَّاً..
معشر الكرام..صورُ البرِّ الرائعة بالآباء كثيرةٌ,فإسماعيل عليه السلام,يرعاه أبوه منذ صباه,وربَّاهُ وغَذَاه,ولما بلغ معه السعي,وأراد المولى سبحانه أن يمتحن الأب في حبّه إياه, أتته الرؤيا بأمرٍ في غاية الامتحان.. اذبح ولدك أنتَ ولا تُوكِلَ ذلك لغيرك,فما أصعبَه من امتحان,فكان الابنُ نعمَ المُعين لأبيه,وهذا البرُّ بإعانة والده على طاعة ربه(يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) فأذاق اللهُ إبراهيمَ برَّ ولدِه حين كان باراً بأبيه, ناصحاً له,ساعياً في إصلاحه,(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) وظل ناصحاً رغم رفضه وتهديده (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) وكما يقول الناس [البرُّ أسلاف] فما تفعله بوالديك سيرتدُّ إليك..روى مسلم في صحيحه أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بَيْنَمَا هُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارِ، إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ - وَكَانَ صَدِيقًا لأَبِيهِ عُمَرَ -،فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَأَلْبَسَهُ عِمَامَتَهُ، ثُمَّ قَالَ.. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ..«إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ،وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ"
تلك صور الأمس, وأما صور اليوم فأكثر من أن تحصر,نراها في صبحنا ومسائنا من أقوامٍ مُوفَّقين بارين بآبائهم..يناظرون خواطرهم..ويجبرون كسرهم فما أهناهم بالأجر العظيم..ينفقون على آبائهم وذلك أقل الواجب ويسعدونهم بالجلوس معهم..إذا توظف أحدهم واستلم راتبه أسعد أباه بماله..يُؤثِرُ والدَه على أولاده ولا تنسوا قصَّةَ أصحاب الصخرة كيفَ فرَّجَها الله قليلاً لمن قدّم والديه باللبن على أولاده..وبعضهم يُداري والده رغم خسارة المال وضيق الحال..ويقول أبتاه أبشر بالمال..فالله أكبر ما أعظمها من أفعال!!كيف لا؟؟وقد تعب في صباه عليك..يروح ويغدو وأنت طفلٌ رضيع..هذا هو أبوك يا ولدي..
أبٌّ يبلغ به الخَرَفُ مَداه..لينطق بكل لفظٍ من قلِّة ذكراه..كلمات غليظة..وبصق في الوجه..نعم بصق!!وإذا بولده يتحمل كل ذلك ويصبر..فقيل له هنيئاً لك البرّ فقال والله ما صنعنا شيئاً صبروا علينا في صبانا وهم مستمتعين،أفلا نصبر على قسوتهم وهم على مقربة الرحيل..
أعرف أناساً قريبين كان والدهم لنا أباً حنوناً يستقبلنا ويُضحكُنا ويؤنسنا فلما بلغ معه الهرم واهتزّت حركته وصعب لفظه تفنّن أولاده ببره بكل ما يُحب حتى لم يدرك عجزه فيارب ارحمه واجز بالخير عياله..وآخرُ بلغ المائة يتقلب بين برِّ أولاده وإسعاده شاركتهم ذلك فعلّموني قصوري ودلّوني على الخير..وأحد الشعراء والمشهورين أبوه الكفيف فيه عصبيّة وحرارة فكان إذا غضب يأتي ولده أمامه ثم يبرد خاطره بضربه أو لفظه حتى يهدأَ رحمه الله ويقول رجلٌ مسنّ توفي قريباً أنه كان في طريقه للحج وعلى الرواحل والأقدام, فاحتاج والده المسنّ الخلاء,فانعزلوا عن القافلة وحين فرغ وإذ بالقوم مشوا وابتعدوا, فحمل والده على كتفه ليَلحقَ بهم, يقول فبكى ثم,رفعتُ رأسي إليه وقلت والله ما أتعبني يا أبتي, فقال لا والله, ولكني حملتُ والدي هكذا قبل أعوام ونحن راحلين للحج..نعم..هؤلاء يبينون كم نحن مقصرون ببرِّ والدينا..فأشعروا أنفسكم دوماً بذلك ليكون دافعاً لكم بالبر..
وفي مقابل صور مشرقة للبرّ كم وكم من قصورٍ في حقّ الآباء,إذا حدّثه ولده فبتعالي, وإذا أمره أبوه ما بالاه, إن حلّ الأبُ في البيت ما وجد مَنْ يُجالسه أو أشغلوه بالطلبات,وإن أراد أمراً توارى الولدُ خوفاً من تكليف أبيه له,بينما تراهم مسارعين بخدمة أصحابهم ولو بسفرٍ وتعب!!وإن أطاعه أطاعه على مضض ويودّ لو أن غيره كفاه, وكل هذا ليس من البر..وأسوأ من ذلك من يرفع الصوت على أبيه, أو يقابل أوامره بالرفض,أو يسخر من أبيه في قوله أو حاله,ويسميّه بالشايب أو يقول..اتركه خرّف وهذرى..أما المصيبةُ فمن أغواه الشيطان حتى بلغ به الطغيان أن يرفع يده على أبيه, نعوذ بالله من الخذلان..فيا أيها المخذول يا عاقاً بوالديه..أحينما كبر أبوك وضعف جسمه وسمعه وبصره واحدودبَ ظهرُه أهملته وما راعيت حقّه..حتى لو كان مُقصراً..فليس عذراً لك!!فاصح وانتبه..فو الله إنه كما قال العوام البرُّ [مدُّ باليد] وسيفعل بك أولادك ما فعلت بوالديك أضف إليه عقوبة الله عليك..
جاء أعرابيٌّ لبعضِ الخُلفاءِ يَبكي،فقال له..ما بك؟قال..أُصِبتُ في ولدي بأعظمَ من كل مصيبة, قال..وما ذاك؟قال..ربّيتُه وسهرتُ لينام،وأشبعتُه وجعت،وارتاح وتعبت،فلما كبُر وأصابني الدهر واحدودب الظهر تغمَّط حقي،ثم بكى وقال..
وربيتُه حتى إذا ما تركتـــــــــــــــــــــه ******أخ القوم واستغنى عن المسح شاربه
تغمّط حقي ظالماً ولوى يدي *****لوى يده الله الذي هو غالبـــــــــــــــــــــــــــــــــه
فهل رأيت أعظم حرماناً ممّن عقّ أباه, ألا يخشَ العقوبة,وفي الحديث المروي "بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق" صححه الألباني اللهم وفقنا للبر بوالدينا واعصمنا من العقوق والبغي..أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد..
يا كُلَّ من رزق أباً هو اليوم على قيد الحياة والله وتالله إنك لفي نعمة عظيمة, توشك أن ترحل, ما دام أبوك حياً فلك إلى الجنة باباً,كما أن أمك تفتح لك بالبرِّ أبواباً ولن يعرف قدر هذه النعمة إلا من جرب فقد الأب,قال صلى الله عليه وسلم[الوالد أوسط أبواب الجنة،فإن شئت فأضع هذا الباب أو احفظه] رواه الترمذي وصححه الألباني وسلْ من فقد أباه فأظلمت الدنيا في عينيه, حين فقد سنده, فليس في الدنيا من يسندك ويسعد لعلوِّك وفرحك وحزنك مثل أبيك فكم افتقدوهم
أَبَتِي وَحِيدًا صِرْتَ تَحتَ التُّرْبِ فِي قَبْرٍ بَعِيدٍ ضَائِعِ الْعِنْوَانِ
مَا دُمْتُ حَيًّا لَسْتُ أَنسَى عِندَمَا أَقصَاكَ لَيْلُ الْقَبْرِ عَنْ أَحْضَانِي
رَحَلَ الَّذِي يَبكِي بِلا دَمْعٍ إذَا سَمِعَ الأَنِينَ يَجُولُ فِي وِجْدَانِي
رَحَلَ الَّذِي لا يَغْمَضُ الْجَفْنُ الْكَلِيلُ لَهُ إذَا دَمَعَتْ أَسىً أَجْفَانِي
أيها الشاب..البر دينٌ سترى أثره في أولادك, وهو قبل ذلك وفاءٌ لمن أحسن إليك, وهو قربةٌ وطاعة لله وبوابة أجر, وفي الحديث«رضى الرب في رضى الوالد، وسخطه في سخط الوالد»رواه ابن حبان برُّك بابيك سعيك في تلبية حوائجه وأن تفرح حين يأمرك أنت, ويخصك أنت من بين إخوتك بتلبية طلبه..صلاحُ نفسك, واستقامتُك لأمر ربك, وبعدك عن الشرّ,وبعدك عن المعاصي من أعظم البر بأبيك.سعيك في نفع الناس والزمان وجهدك لرفعة الأمة والأوطان من أعظم البر له فلمثل هذا ربَّاك, ولمثل هذه المواطن أُمّك هيأتك,ليفخروا بك وليكونا مشاركين لك في الأجر..برك بأبيك أن تحرص على الجلوس معه,ومرافقته والصبر على ذلك وإيناسُه بحسن حديثك, وإدخال السرور عليه ببقائك,سيما إذا كبُر وترحّل رفاقه, واحتاج لأولاده..إذا رأيت ما يسعدْه فافعله تنلْ الأجر وتسعد..برك بأبيك بتفقّدِ حاجاتِه وأن توسع عليه عند احتياجه, فكم أحسن إليك وأنفقك,برك به أن تحتمل عتابه, وتصبر على حدّته, وأن يراك حيث يُحب, وأن تكون رفيقاً له إن رغب في ذهابه ورواحه واحذر ثم احذر أن يتحسَّر أبوك على فعل لك وتصرف وإهمالك له رغم برّه بك!! وربما ترى أباك مقصراً في حق الله,فإياك أن تستصغره لذلك فمن أعظم البر أن تعينَه على نفسه,وتوجهه وتُذكَّره,ولكن بمراعاته فهو أبوك وأنت ابنه وهو كبير وأنت الصغير,فاختر للنصح أفضل العبارات وأنسب الأوقات..ومن الأولاد من يُبخلُ أباه, فإذا رآه منفقاً في سبيل الخير والوقف ثبَّطه, وبخّله, وليس ذلك بِرّاً,بل البر بإعانته على الخير,وفي الحديث"الولد مجبنة مبخلة"واعلم أيها الموفق أن البرَّ لا ينقطع بالوفاة, فبرك بأبيك بعد وفاته أن تصل أقاربَه, وتحسن لهم وتتفقد أصحابه و من أبرّ البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي"ودعاؤك له أعظم البر,وهو عمل صالح يأتيه في قبره,ويحقق لك معنى[ولد صالح يدعو له] فكم نصيب والديك حيّهم وميتهم من دعواتك ثم اعلم أنك اليومَ ابنٌ وغداً أبٌ,فاختر لأولادك معك من خلال برك بأبيك, والبِرُّ كلُّ إحسان من قول أو فعل أو شعور..وَيَا ولدي كما قلت لك أين منك أبوك..فأقول..أين عنك أبوك..فاهتموا أيها الآباء بأولادكم..لا تغيبوا عنهم كثيرآ وتحمّلوهم وأدبوهم وربوهم..فهم من سيمثلونكم..إنها يا كرام كلماتُ وفاء في حق الآباء, ونحن على يقين أن حقَّهم أكبرهم, وقدرهم أعظم,فاللهم وفقنا للبر بوالدينا أمواتاً وأحياءً..