• ×

02:18 صباحًا , الإثنين 21 جمادي الثاني 1446 / 23 ديسمبر 2024

لغتُنا العربية.. دينٌ وهويّة..

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله جعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا، والصلاة والسلام على من أعلى بهديه شأننا وميّزَ بلغتِه أمّتنا،وعلى آله وصحبه وسلم تسليما أمّا بعدُ..فاتقوا الله عباد الله.. واعلموا أنّ لغةَ القرآنِ التي بها ُيقرأُ وأُنزل وبها أفضلُ الخلْقِ أُرسل..هي وعاء علوم الدين وذخائرُه وبها معرفةُ القرآن والسنةِ،وهي مفتاحُ الفقه في الدين..

إنها لغةُ الأمةِ العربيةِ أساسُ حفظِ الهوية؛وإذا أضاعت أمةٌ لسانَها أضاعت تأريخَها وحضارتها كما تُضيِّعُ حاضرَها ومستقبلها.. فاللغةُ تربطُ المرءَ بأهلِه وأمّتِه ودينِه وثقافتِه،وهي مظهرٌ لقوّة الأمة،وتقدّمِها وعنوانُ حضارتِها..والتاريخُ يشهد أن لغتنا استطاعت تحقيقَ مُتطلّباتِ المجتمع عبر التاريخ،وكما هي لغةُ الشرع فقد استجابت لحاجات الحضارة وتجدُّدِها فكانت لغةَ العلم والبحث، طِبّاً وعلوماً ورياضيات وهندسة وفلك..ولذلك تسابق أبناءُ الأمم لتعلّم العربية لتطوّرها..

أيها الإخوة..إنَّ للُّغةِ العربيَّةِ مكانةً تقصرُ عنْ وصْفِهَا العباراتُ، وقدسيَّةً انفرَدَتْ بِهَا عَنْ اللُّغاتِ،محفوظةٌ بِحفظِ كتابِ اللهِ الَّذِي حفظَ وجودها، ميّزها بعنايةِ أُولِي الألباب، ملائمةٌ للعلومِ والآدابِ، عذبةُ الألفاظِ، جميلةُ المعانِي؛لغةٌ للقرآن عُجاب،منْ دخلَ غزارتَها، وجدَ متعةً بلاغيّةً،ورحابةً لفظيّةً،واستوعبها القرآن(إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فالقرآنُ الكريمُ كتابُ اللهِ المبينُ هدًى لِلْعالمينَ، نزلَ بهِ الرُّوحُ الأمينُ، بلسانٍ عربِيٍّ مُبينٍ،لِيكونَ لنَا عزًّا ومجدًا(لَقَدْ أنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أفَلا تَعْقِلُونَ) تَحدَّى اللهُ بهِ الفصحاءَ،وأفحمَ بِهِ البلغاءَ، وأثنى بهِ على العلماءِ، ضَمِنَ لهُ الغلبةَ والبقاءَ، وَلِمَنْ عملَ بِهِ فوزاً وفلاحَاً وارتقاءً أنزلَهُ اللهُ باللِّسانِ العربِيِّ الْمُبينِ، وامتنَّ بِهِ علَى الناسِ أجمعينَ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)فما أعظمها من لغةٍ حُقَّ التمسك بها ورَحِمَ اللهُ مَنْ قالَ علَى لسانِهَا، واقتبسَ مِنْ بيانِهَا، وهدى اللهُ منْ ظنَّ أنها تقصرُ عن استيعابِ مصطلحاتِ الحضارةِ فاستبدلها بلغةٍ أعجمية اللسان ظنُّوها أفضلَ للعلم والبيان..فتخاطبُهم العربيّة..

وسعْتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً *** ومَا ضقْتُ عنْ آيٍ بهِ وعظاتِ

فكيفَ أضيقُ اليومَ عنْ وصفِ آلةٍ *** وتنسيقِ أسماءٍ لمخترعاتِ

أنَا الْبَحْرُ فِي أحشَائهِ الدُّرُ كامنٌ*** فهَلْ ساءلوا الغواصَ عنْ صدفاتِي

لغةٌ للقرآن، اختارَهَا اللهُ لشريعتِهِ،ولأفضلِ رسلِهِ..فالعنايةُ بِهَا فضلٌ، والاهتمامُ بِهَا أولويّة؛لتعلُّقِهَا بالكتابِ والسنَّةِ..وللاشتغالِ بعلومِهَا أجرٌ عظيمٌ، وَثوابٌ جزيلُ؛قالَ عمرُبنُ الخطابِ رَضيَ اللهُ عنهُ: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ" لقد عرفوا فضلَ اللغةُ العربيةِ، فبذَلُوا فِي سبيلِهَا الغالِيَ والنَّفيسَ؛ خدمةً لكتابِ اللهِ تعالى، وتعلّقاً بِالدِّينِ، فكانَ مِنْهُمْ مَنْ صرَفَ هِمَّتَهُ إلَيها نَحواً وصَّرفاً وبلاغة، واعتنَوا بالشِّعرِ والنثر رِوَايةً ودرايةً. ذكر القرطبي بتفسيره عن ابنَ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهُمَا: "إذَا سَألْتُمُونِي عَنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ فَالْتَمِسُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّ الشِّعْرَ دِيوَانُ الْعَرَبِ"علماءُ عرباً وعجماً أنفقوا أعمارَهُمْ لخدمةِ كتابِ اللهِ حفظاً وتفسيرًا وإعراباً، فنقلُوا القرآنَ بقراءاتِهِ، وضبطُوا قواعدَ اللغةِ، وكتبُوهَا فِي مؤلّفاتٍ عظيمةٍ، أفلا نتأسَّى بهم، ونُحافِظُ علَى لغتِنَا الفصحى نتعلَّمُهَا نحنُ وأبناؤُنَا، ونغرسُ فِي نفوسِ النشئِ حبَّ لغتِهِمْ والاعتزازَ بِها؟ لاسيما ونحن نراهم يُميلون ألسنتهم بلغةِ غيرهم ويتخذون حروفها الأجنبية على صدورهم تفاخراً حتى أسماءُ مواليدنا اتخذها البعضُ أجنبيّة!!

سقى اللهُ في بطن الجزيرة أعظماً.........يعزُّ عليها ان تلين قناتي

حفظنَ ودادي في البِلى وحفظتُه...........لهنَّ بقلبٍ دائمِ الحسرات

أحبّتي: لغتُنا العربية هويةٌ ناطقةُ معبرّةٌ عنّا وهي شعارُ الإسلامِ وأهلِهِ. واللغاتُ من شعائرِ الأممِ بِهَا يتميزُونَ ويتفاخرون..وواجبُ الجميعِ الحرصُ علَى إعلاءِ شأنِ اللغةِ العربيةِ بالحديث بِهَا دوماً في العلمِ والندوات والإعلام والقنوات ونظاماً لمؤسسات العلم بل والتجارات نحافظُ علَى لسانِنَا العربِيِّ المبينِ الَّذِي نزلَ بِهِ كتابُنَا الحكيمُ حاملاً رسالةَ العلمِ للناسِ كافةً.ونجعَلُ اللغةَ العربيةَ صاحبةَ مكانةٍ لائقةٍ مرموقةً في كل المجالات وكما أن اللغاتِ الأجنبيةَ،لغةُ صناعةٍ وتقنيةٍ وعلومٍ دنيويّةٍ، فتُحصرُ في نطاقِها وتكونُ لغتُنا العربيةُ أساسَ كلِّ شيءٍ، وواجهتُنا الرسميّةُ في كلِّ مرفقٍ فلماذا نكسرُ لغتَنا ونلْحنُ في كلامِنا عندما نخاطبُ عمالةً أجنبيةَ، ظنا منا أنَّ هذا التكسيرَ يُسهِّلُ على العاملِ الفهمَ،فوُجدَ لدينا لغةٌ عُمّاليّةٌ ضحلة تستحيي الأذنُ العربيةُ من سماعِها..ولو خاطبناهم بالفصحى لتعلّمنا نَحْنُ وإياهم..

إخوتي الأممُ الغالبة تسعى لنشر لغتِها وإضعافِ غيرها لتُعمّمَ فهمَها وتفرضَ قوّتَها من خلالها والمؤسفُ أنّ لغةَ القرآن والإسلام مستهدفةٌ، وبعضُ أهلها يتهاونون بها أو يزدرونها جهلاً وضعفاً أو بدعوى عدم مناسبتها للعصر وعقمها عن الإفهام!!

رموني بعقمٍ في الشباب وليتني............ عقِمتُ فلم اجزع لقول عداتي

ايهجرني قومي عفا الله عنهم...............الى لغةٍ لم تتصل برواة

تعلّقوا بالأجنبي،وولّوا وجوهَهُم شطره، ثقافيًا وفكريًا، وأصبح بعضهم ينظرُ لثقافة الإسلام ولغته بازدراء، في تبعيّةٍ مشينةٍ تُبيّنُ أن الأزمةَ أزمةَ عزّةٍ لا أزمةَ لغة،وأزمةَ ناطقين لا أزمة كلمات،فلم تضعفْ اللغةُ ولم تعجز،ولكنْ ضعُفَ أبناؤها،وقصَّر حماتُها، في نفس الوقت الذي نرى فيه إقبالاً متزايداً من غيرنا على تعلّمها وفهمِ جماليّاتها والاستمتاعِ بأدبها وعذوبةِ نثْرها وشعْرها..ثم تُتَهمُ هي بالعجزِ ظلماً وبهتان من غير حجةٍ ولا برهان،ويزدادُ الضعف حين يؤسَّسُ النشءُ على تجاهل لغتهم العربية فتزورُ بلداً عربياً فلا تستطيعُ إنجازَ عملِك وسياحتِك إلا بالحديث بغير لغتك ولغتهم..سوقُ العمل يصبح ناقصاً مع اللغة العربية لكنّه عندهم متطورٌ مع لغاتٍ أجنبية فتحوّل كلُّ شيءٍ إلى بيئاتٍ أجنبية، يتبادلُ فيها أبناءُ الأمّةِ لغةً من غيرهم،حتى تحوَّلت قوائمُ الأطعمةِ والسلعِ والأسعار إلى لغةٍ أجنبيّة،مهنٌ للعملِ بسيطةً أصبحت بشرطِ لغةٍ أجنبيّة فرضت وجودَها وأنماطَها على شرائحَ واسعةٍ من أجيالِ الأمة، فاضطربت لغةُ التخاطب،وفسدت الألسن، وزادوا تخلّفًا إلى تخلفهم،وضعفًا إلى ضعفهم.. وباتوا مستعمرين بلغةٍ أجنبيّة ليس عسكريّاً وإنما لغةً ولباساً وثقافةً وخُلقاً.. بل رياضةً وترفيهاً..وما لم نُهيّئُ للسانِ أجيالنا حمايةً ولجمال العربيّةِ دعايةً.. فستضيعُ هويّتنا كما ضاع غيرنا..من أمم وحضارات..

أيها المسلمون..تكلموا بلغتِكُم،وصدقوني أنَّ غيركم سيتعلَّمُها على الوجهِ الصحيحِ، الرجلُ الغربيُّ على -سبيلِ المثالِ- لا يمكنُ أن يكسِّرَ في لغتِهِ من أجلِنا، ينطقُ بلغتِهِ،فهمتَ أم لم تفهمْ..فالصينُ مثلاً،كبلدٍ متقدّمٍ صناعياً واقتصادياً،لا يتكلمُ أهلُها هناكَ إلا بلغتهم، وغيرهم من ألْمانَ وفرنس يعتزُّون بهويّتهم ولغتهم ونحن لغتُنا لغة القرآن والسنة وهي هويّةُ الأمة لكنّنا نُغرِّبُ أنفسَنا،ونُقصي لغتَنا، حتى محلاتٍ تجاريةٍ وفنادقَ ودكاكين صغيرةً أو كبيرة لوحاتُها تغرَّبَتْ بأسمائِها، وكأنَّ لغةَ القرآنِ ضاقتْ بها، فلم يجدُوا إلا أسماءَ أجنبيةَ!وذلك مُخالفٌ للنظام الذي لم يستثنِ إلا شركاتٍ أجنبيّة!فلستُ أدري أين دور البلديّة؟!

إنَّ صرف المجتمعِ عن لغتِه يُنتجُ أجيالاً تتحدّثُ خليطَ لغاتٍ أو لهجةً عاميّةً دارجة تُفرّقُ بيننا فأصبح العربيّ من المغربِ الأقصى لا يفهمُ لغة الشامِ والجزيرة والعكسُ كذلك.. ولولا حفظُ اللهِ للقرآنِ ووجودُ سنةٍ نبويةٍ لما استطاعَ العربُ فهمَ بعضِهم ولتفرّقوا أُمماً كغيرهم!!

َعباد الله..لغتُكم لغةُ القرآنِ،استوعبت شريعةَ اللهِ وتعاليمِه،أفلا تكونُ قادرةً على حَملِ أمتعةِ دنياكُم؟ وإنّ التطوّرَ ليس في تغيير اللغة بل في الثبات عليها..فهي دينٌ وهوّيةٌ ووطنٌ وشخصيةٌ!!فاليهودُ بلا وطن خاص أحيوْا لغةً مندثرةً، لا حضارةَ لها ولا تاريخ، فأصبحت عندهم لغةُ العلم والأدب والحياة والدين..وكذلك حافظ الفرنسُ والألمان والصين.. وذلك تصرّفُ مَنْ رامَ التقدّمَ والقوة والعزة فاعتمدَ على نفسِه من خلال دينه ولغتِه وهويّته(وإنه لتنزيلُ رب العالمين نزلَ به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسانٍ عربيٍّ مُبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آيةً أن يعلمَه علماءُ بني إسرائيل)أقول ما تسمعون..

الخطبة الثانيةُ..

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد..

إن قوّةَ اللغةَ واستمرارَها ـ بإذن الله ـ يعتمدُ على وعي الأمة وحرصٍ الأوطان على رعايتها وانتشارها، واليقينِ الجازمِ بأهميتها وقدرتها لمتطلبات الوقت،ومعطيات التحضّرِ،ومستجدّاتِ التطوّر..وتلك أهدافٌ كبرى تُخطّطُ لها الدول وتهتمُّ بها الأمم فتُوجدُ مراكزَ مُتخصّصةً لحمايةِ اللغة والعنايةِ بتدريسها والتذكيرِ بأهميتها وتطويرها وترجمة المصطلحات الأجنبيّة عنها.. وهنا يأتي دور تعليمٍ يَهتمُّ بها ويرسخها في الجيل وإعلامٍ يبتعد عن الغثاء ويساهم ببرامجه بخدمة الفصحى بشعرها وكتبها ومسابقاتها..ومساجد وأسر وتجار ودوائر كلُّهم مطالبون بحماية اللغة والحديث بها..من هنا آمنت بلاد الحرمين وقادتها بأهميةِ ذلك فأُنشيء مركزُ الملك عبدالله يرحمه الله للغة العربية وهاهو أمير القصيم وفقه الله ينشر مركزاً للغة العربيّة بالمنطقة وأيضاً جهودٌ لرجالٍ مُخلصين داخليّاً وخارجيّاً أعطوا بجهودهم بعد توفيق الله للغتنا العربيّة حقّها ورفعوا عالياً عَلَمها ونشروا عِلْمها وألّفوا كُتُبَها فلا حرمهم الله جميعاً أجرها..وذلك ما يُبقي للغتِنا شموخَها،ويُقوّي مناعةَ جسمِ أبناء الأمة لحفظها، والاعتزاز بالدين والدار،والتعامل مع اللغات الأجنبية ببصيرة،وحسن استفادة من غير ذوبان.. نَحْنُ بحاجةٍ للأمن اللغوي،كما الأمن الفكري، والغذائي، والمائي وضرورات الحياة، والعيش الكريم.هذا هو الطريق،وذلكم هم المسار، وعلى الله قصد السبيل(وَكَفَىٰ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)..



 0  0  1162

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.