• ×

07:35 صباحًا , الإثنين 21 جمادي الثاني 1446 / 23 ديسمبر 2024

لماذا الحزن والاكتئاب ؟!

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله شرح صدور أهل الإيمان بفضله،وأضلَّ من شاء بحكمته وعدله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وسلم تسليماً أما بعد فاتقوا الله عباد الله فتقوى الله عزٌ بعد ذلّةٍ وأمنٌ بعد خوف..

أيها الإخوة..في زمنِ حضارة مادية واختراعات طبية مذهلة يفترضُ بها أن تملكَ حلولاً لجميع الأزمات لكن رأينا الفقرَ زاد والجهلَ عمَّ والحروبَ تفاقمت وأصبحت أعلى البلاد دخلاً ماديآ للفرد أكثرُها تعاسةً وانتحاراً وصرنا نسمع عن حالاتٍ نفسيةٍ غريبةٍ تؤدّي لجرائمَ شنيعةٍ لم نكن نُعرفْها حتى وُصف عصرنا بترفيهه وماديّته وسرعةِ اتصاله وتقنيته بدلاً من عصر السعادة بعصرالحزن والقلق والاكتئاب، مع ازديادٍ ملحوظ للحزن والكآبة!!

المصاب بالحزن عافانا الله وإياكم يرى الحياة موتاً،والدنيا نكداً وهماً، واللذةَ تعاسةً والأرضَ الواسعةَ ضيقةً بما رحبت ويعيش عُزلةً وهمّاً ومللاً وضيقة صدر إلا من رحم الله..نسأل الله الشفاء لمن ابتلي..

والإحصاءاتُ العالمية إخوتي تبيّن أن عشرةً بالمائة من سكان العالم يعانون من الحزن والاكتئاب، كأكثر مرض منتشر بالعالم بما في ذلكم بلاد المسلمين،أي مئاتُ الملايين من البشر يعانون هذا المرض بل أسفرت الإحصاءات أيضاً عن أجيالٍ وُلدت في العقود الأخيرة يبدأ عندها الحزنُ والاكتئاب في سنٍّ أصغر وبمعدلات أكبر،لعواملَ اجتماعيةٍ مؤثرة،وارتباطٍ كبير بألعاب التقنية..والإناثُ أكثر تعرضاً له من الذكور بنسبةٍ الضعف تقريباً والسبب حسب الدراسة انحرافُ وظيفة المرأة الحقيقية،وتحميلُها ما لا تطيق من أعباءَ حياتية تركت لأجلها بيتها وانحرفت أمومتها وابتعدت عن أطفالها..أما الانتحارُ بسبب الحزن والاكتئاب الشديد في العالم يزيد على ثمانية مليون شخص سنوياً وثمانون بالمائة من المصابين بهذا المرض بالإحصاء لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يكشفون عن حالهم..والحزن والاكتئاب قد يُوجد أيضاً مع نكساتٍ مادية أو مشاكل أسرية أو بعدٍ عن الدين وغفلة أو بالمقارنات مع الغير بالغنى والصحة والقوّة مع ازدراء الحال أومآسي عالميّة بغياب التصرّف المناسب حيالها..وظاهرةُ الحزن إخوتي ليست وليدةَ هذا العصر وإن تميّزت به، وليست مما لا يعالجُ أويُخفّف وجودها فالانغماسُ الزائد في متاع الحياة الدنيا سببُها مع سيطرةِ النظرةِ الماديّة عليهم أو بسبب ضغوطِ الحياة وإيقاعها السريع..

إن تعطيلَ الفطرةِ السليمة وغيابَ الاستقرار الأسري يُنميِّها وكذلك قلةُ العبادةِ الظاهرة وذكرِ الله وعدمِ التعلّقِ بالقرآن وقراءته..أو ضعف ارتباطِ المجتمعات بدين الله وتطبيق شرعه والإيمان بالقدر خيره وشره واستقامةُ الأمن والإعلام والتعليم واستقرارُ العدل والمساواة والمحبة، والبعد عن الأثرة وحب الذات..وكلُّها أسبابٌ جديرةٌ ببحث وعلاج ما بين الطبِّ الشرعي والطب النفسي..

عباد الله الحزنُ عند العرب من الحَزَن وهو الغمّ والحزن للماضي والهم للمستقبل،يقول ابنُ القيم رحمه الله.."أربعةٌ تهدمُ البدن.."الهمُّ والحزن والجوع والسهر"وكثرةُ الحزنِ سببٌ لضعف البدن وهو مرتهنٌ بالبلاء ولم يرد الحزنُ القرآن إلا منهيّاً عنه[وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا] وقوله تعالى [وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ][لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] [وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ]والمؤمنون [لاخوف عليهم ولا هم يحزنون] لأنه لا مصلحةَ فيه للقلب بل هو أحبُّ شيءٍ للشيطان[إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] يقول العلامة ابن سعدي..( الحياةُ قصيرة فلا تقصّرها بالهم والحزن) والحزنُ المستمرُّ يميتُ لذّة كل شيء ويُفقدُ الإحساس بكل متعة، ووليس له من فائدة!! بل هو مرضٌ وكآبة يشوّه الملامح..فلماذا الحزن وكل ما في الدنيا زائل وأنت بالحزن تفقد الغالين حولك والمحبين لك.. والمصيبةُ أن الحُزنَ أصبح عادةً للبعض عند كل مشكلة يتعرض لها يظنُّه علاجَه!!وإذا كنتَ لابد حزينَاً فاحزن إيجابياً على أيامٍ أضعتها بعيداً عن ربك وعن دينك وعن برِّك بوالديك وصلةِ أرحامك.. احزن على أعمالٍ سيئةٍ وقعتَ فيها..واتخذ من الحُزنِ دافعاً للتوبة واستعن بالله واصبر فإنك إن مت غداً فلن يكونَ معك سوى عملُك فالحزنُ وضيقة الصدر لن يُسعداك!!انظر للحياة بإيجابية دوماً وتجاوز عن الأخطاء وتغافل فليس كل شيءٍ يستحق الاهتمام سامح والتمس الأعذار..فالدنيا فانية وأصغر بكثير مما نتوقع..

وكن راضياً لا تسخطنّ لشدة

كما الشوك لا يُعطي الرحيقَ ولا العنب

إذا المرءُ لم يرضى بما ربّه وهب

فلن يُغنه مالٌ وإن زاد ما كسب

فكُن راضياً تُرضي الإله بأمره

فدربُ الرضا نورٌ ونبتُ الرضى ذهب

وإحسانُ ظنٍّ في الإله وشكرُه

فتلك معانِ الخير خُطَّ بها الأدب



من ابتُلي بشيءٍ من الحزن والكآبة إخوتي فليعرف السبب ولا عيبَ بمراجعةِ طبيبٍ نفسي مُتمكِّن ومشاورةُ صاحبِ دين ثقة في ذلك فهم بفضل الله يعالجونه ببدايته ويعاونوه على التعامل معه..فالفهمُ الصحيحُ في التعاملِ مع الحزنِ والاكتئابِ بالإيمانِ والدينِ والطب أما العويلُ له والخجل منه أو الانتحارُ لأجله عياذاً بالله أو إدمانُ العقاقير والمخدراتِ وإذهابُه باللهو فليس بعلاج ..فلا بدّ أن تُشخّصه جيداً ثم تعالجه.. واعلم انه مرض كغيره تؤجر بالصبر عليه فما يُصيب المؤمن من همٍّ ولا حزن ولاوصب فصبر إلا كان له به أجر!

إن خواءَ القلب من ذكر الله سببٌ للضيق والنكدِ والحزن..[وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ] قال صلى الله عليه وسلم..(إذا كثُرت ذنوبُ العبدِ ولم يكنْ له ما يُكفِّرها من العمل ابتلاهُ الله عزَّ وجل بالحَزن ليُكفِّرَها عنه)) رواه أحمد وكذلك قلقُ كثيرٍ من الناس وخواءُ أفئدتِهم من الإيمان بالله وبقضائه وقدره، وفزعهم من مستقبل مجهول،وشعورٍ بالوهن عما يُواجهه فتجدُ هؤلاء قوماً يفرَقُون،لو يجدون ملجأً أو مغارات أو مُدَّخلا لولَّوا إليه وهم يجمحون مما يجد شفاهم الله..وقد يكون إجلابُ الشيطانِ بخيلهِ ورجلهِ على ابنِ آدم فيوسوسُ إليه ليخنس، ليقذفَ في قلبهِ الحُزنَ والكآبةَ بالتشويشِ بالأحلامِ والكوابيس في المنام،حتى تصبحَ هاجساً مُقلقاً عندَ كلِّ غمضة عين..فيُصابون بأَرق مزمن وقلَّةِ نوم، وفي الحديث أن بعض الأحلام تكونُ تحزيناً من الشيطان يُحزِنُ بها ابنَ آدم..

أسبابُ الحزن عباد الله التي يتخذها الناس إما ماديّةٍ أو ديونٌ حالّة أو جبنٌ وبخل يُحزنه فالكرمُ سببٌ للسعادة دخل صلى الله عليه وسلم المسجدَ ذات يوم فإذا هو بأبي أمامة فقال له..ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟!قال..همومٌ لَزِمَتْني وديونٌ يا رسول الله قال..أفلا أُعلِّمُك ما يُذهبُ ويقْضِي ديْنَك؟! قال.. بلى يا رسول الله قال.. فإذا أصبحتَ وأَمسيت فقل..اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحُزن، وأعوذُ بك من العجزِ والكسل، وأعوذُ بك من الجبنِ والبُخل، وأعوذُ بكَ من غلبةِ الديْنِ وقَهْر الرجال)قال أبو أمامة.. ففعلتُ ذلك، فأذهب الله همّي، وقضى عني ديني)رواه أبو داوود إذاً فالبعد عن هدايةِ الله والتعلّقُ الزائد بالدنيا سببٌ للهموم والأحزان، ومن تعلَّق بشيئٍ فقد وُكل إليه، ومن وُكل إلى غيرِ الله فقد وُكل إلى ضيعة وخراب [فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ] اللهم هب لنا السعادة والاطمئنان واشرح صدورنا بالايمان.. وجنبنا الحزن والكآبة والخسران.. أقول ماتسمعون

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة و السلام على من لا نبي بعده وبعد..

إن مما يُساعد على نبذ الكآبة والحزن القيامُ بعزائمِ الأمور والحذرُ من الولع بزينة الدنيا لتُحقِّقَ الانشراحَ والطمأنينة،ويزولُ الضيقُ والضنك بالاستمتاع بما أباح الله..فاتركوا الحزن عبادالله واسعِدوا بما وهبكم الله من صحة ومالٍ ووطنٍ وأهل واشكروا له ولا تكفرون.. وأَسعِدوا من حولكم واعلموا أنكم تصنعون سعادتكم بتصرفاتكم وقناعاتكم احرصوا على القيام بأي دورٍ إيجابي في المجتمع لنصرة الدين ونهضة الوطن كعمل تطوعي وأمر بمعروف ونهي عن منكر والحرص على العلم الشرعي النافع والدعوة إلى الله وإغاثة اللهفان وخدمة الناس ففي كل ذلك سعادة عظيمة..وكن موقناً أخي بالقضاء والقدر، وأن ما أصابك لم يكن ليُخطئك وأن ما أخطئك لم يكن ليصيبك فالأمور بيد الله مقاديرها،والأرزاقُ مقسومةٌ والآجالُ محتومة، وكلُّ نفسٍ لن تموتَ حتى تستكملَ رزقها وأجلهَا فالمرءُ يتوكِّلُ على ربِّه دون توتُّر ولا ريبة ولا قلق؛ويستقبلُ الدنيا بشجاعةٍ ويقين، مع الرضا بالله وعن الله سبحانه،ومن قلَّ رضاهُ عن الله صار مرتعاً للأوهام والأحزان سُئل الحسن البصري رحمه الله.."من أين أتى الهمُّ والحزن؟فقال..من قلة الرِّضا عن الله"وأعظمُ الرضا القناعةُ فهي كنزٌ لا يفنى وارض بما قسم الله لك تكن أسعد الناس..والرضا عن الله باستحضار العبد لحكمة الله في الأقدار،وأن عطاءه ومنعه لحكمة بالغة..قال صلى الله عليه وسلم لما توفي ابنه إبراهيم دفعاً للحُزنِ..((إن العينَ لتدمع وإن القلبَ ليحزن،ولا نقولُ إلا ما يرضي الرب،ولولا أنه وعدٌ صادق وموعود جامع وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك ـ يا إبراهيم ـ وجداً،وإنا بك ـ يا إبراهيمُ ـ لمحزونون)) رواه البيهقي وابن ماجه كثرةُ التسبيح والسجود والعبادة دواء..(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ)وإذا حَزَبه صلى الله عليه وسلم أمرٌ فَزِعَ إلى الصلاة،ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ورَزَقَه من حيثُ لا يحتسب وهناك طعامُ التلبينة،من حساء،دقيقٍ أو نخالة،مع عسلٍ أو لبن أو كلاهما،قال صلى الله عليه وسلم..(التلبينةُ تُجِمُّ فؤادَ المريض –أي تُريحه- وتُذهب ببعض الحزن) متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم (مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ..اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ،نَاصِيَتِي بِيَدِكَ،مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ،عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ؛أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ؛ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ بَصَرِي وَجَلاءَ حَزَنِي وَ=ذَهَابَ هَمِّي إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حَزَنِهِ فَرَحًا "قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ؟قَالَ.."أَجَلْ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ))رواه أحمد نسأل الله جل وعلا أن ينجينا من الهم والحزن ويسعد قلوبنا بطاعته..اللّهمّ اسقِ قلوبنا بِذكركَ حتّى تُروىٰ واشْبع أرواحنا بطاعتك حتّى تَقوىٰ وكُن بِنا رؤوفاً رحيماً فلا ملجأَ لنا سِواك ولا مَأوىٰ ..الّلهمّ أَسعِد قلوبنا بما أنتَ أعْلَمُ بِهِ مِنّا اللّهمّ أسْعدنَا سعادتي الدّنْيا بِخيرِها والجنّةِ بِفردَوسها يا أرحم الراحمين..اللهم احم حدودنا وانصر جنودنا ووفّق ولاة أمرنا ومُنَّ على بلادنا وبلاد المسلمين بالأمن والإيمان والسلامة.



 0  0  998

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.