الحمد لله أمر بالبرّ والإحسان،ونهى عنى القسوة والعصيان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديّان وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأعلام.. أما بعد فاتقوا الله عباد الله فإن التقوى سببّ لدخول الجنان...
أيها المسلمون..جُبلت النفوس على حُبّ من أحسن إليها،وتعلَّقت القلوبُ بمَنْ له فضلٌ عليها،وليس أعظمَ إحساناً ولا أكثر فضلاً بعدَ اللهِ سبحانَه وتعالى من الوالدين..قرن الله حقَّهما بحقّه وشكرهما به، وأوصى بهما بعد عبادته..((وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً)) وكما لله سبحانَه نعمةُ الخلقِ والإيجاد،فللوالدين بإذنه نعمةُ التربيةِ والإيلاد.. قال ابنُ عباس رضي الله عنهما((شكرُ اللهِ مع شكر الوالدين ورضاه في رضاهِما وسخطُه من سخطِهما))إحسانُ الوالدين عظيم،وفضلُهما سابق، تأمَّلوا حالَ الصغر،وتذكَّروا ضعفَ الطفولة ((رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا))تذكَّروا عظمَ حق الوالدين الذي نُكرّرُ التذكيرَ به في زمنٍ كثر فيه العقوق حتى وصل ببعضهم لإهانة والديه بل والاعتداء عليهما بالضرب والعنف بل وحتى القتل..كما سمعنا قبل أيام من اعتدى على أمّه في جرائمَ لم نكنْ نعرفْها ولا نتوقَّعُها ولا يفعلُها إلا من عُدمت الرحمةُ من قلبِه والوفاءُ من خلقه ولا حول ولا قوة إلا بالله ونعوذ بالله من غياب البرِّ وانتكاسِ الفِطر..
حملتْك أمُّك-يا عبد الله-في أحشائِها تسعةَ أشهر،وهناً على وهن،حملتْك كُرهاً،ووضعتك كُرهاً،ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً..وعندَ الوضع رأتَ الموت بعينها..ولما بَصُرت بك إلى جانبها سَرْعان ما نسيَتْ آلامَها،وعلَّقت فيكَ آمالَها..رأت فيك بهجة الحياة وزينتَها،ثم شُغلت بخدمتِك ليلها ونهارَها،تُغذِّيك بصحتِها..طعامُك دَرُّها..وبيتُك حِجْرُها.. ومركبُك يداها وصدرُها وظهرُها..تُحيطك وترعاك..تجوعُ لتُشبعَك، وتسهرُ لتنام..رحيمةٌ عليك شفيقةٌ بك..إذا غابت عنك دعوْتَها..وإذا أعرضَت عنك ناجيتَها..وإذا أصابك مكروهٌ استغْثتَ بها..وإن هُوجمتَ احتميتَ عندَها..تحسبُ كلَّ الخيرِ عندَها..وتظنُّ أنَّ الشرَّ لا يصلُ إليك إذا ضمّتكَ إلى صدرِها أو لحظْتك بعينِها!! هذه الأم التي لو حججت بها على ظهرك وطُفت بها وسعيت تحملها فوقَ ظهرك لا توازي زفرة أليمة من زفرات ولادتها بك..نسأل الله أن يجزي أمهاتنا خير الجزاء ويرزقنا برَّهن وطاعتَهن ويدخلهنَّ الجنان.
أما أبوك فأنت له مجبنةٌ مبخلة..يكِدُّ ويسعى..ويدفعُ عنك صنوفَ الأذى.. يتحمَّلُ الأخطار والأسفار بحثاً للقمةِ العيش..ينفقُ عليك ويُصلحك ويربيك..إذا حضرَ احتضنت حُجْره وصدْرَه..يفتخرُ ويُفاخر بك ويرجو خيرك وبَّرك ويسهرُ لجوعكِ وألمكِ،هذان هما والداك،وتلكَ هي طفولتُك وصباك، فلماذا التنكّرُ للجميل؟وعلامَ الفظاظةُ والغلظة،وكأنكَ أنتَ المنُعمُ المتفضِّل؟!والله إنا لنحزن ونحن نسمعُ عقوقاً هنا وهناك..يأتيك أبٌ يشكي وأمٌّ تبكي من العقوق فهل غاب عنا دورُ الوالدين وأهميةُ برِّهما أم قست القلوب لدرجة نسيان فضلهما.
أقبلَ رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال.. أبايُعك على الجهادِ والهجرةِ أبتغي الأجر قال..((فهل من والديك أحدٌ حي))؟ قال..نعم بل كلاهما.قال..((فتبتغي الأجرَ من الله؟)).قال..نعم.قال..((فارجعْ إلى والديك فأحسنْ صحبتهما))متفقٌ عليه وفي رواية ((الزمْهُما فإن الجنةَ تحت أقدامهما)) هذا وهو الجهاد فكيف بالانشغال بأشياء أخرى!!
أيها الإخوة..نحتاجُ للتأكيد دوماً على بر الوالدين فإن حقهما عظيم، ومعروفُهما لا يُجازى،لهما المحبةُ والتقدير،والطاعةُ والتوقير،والتأدّبُ أمامهمَا،وصدقُ الحديثِ معهُما،وتحقيقُ رغبتهما في المعروف،وتنفقُ عليهما ما استطعت..((فأنتَ ومالُك لأبيك))..ادفعْ عنْهُما الأذى..لا تحدثْهُما بغلظةٍ أو خشونة أو رفعِ صوت..جنَّبْهما كلَّ ما يُورثُ الضجر..((لاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا))تخيرَّ كلماتٍ لطيفة وعباراتٍ جميلة وقولاً كريماً..قبَّل رأسيْهما ويديْهما وأجلسْهما برأسِ المجلس.. وعلّم أولادك ذلك الاحترام لوالديهم فبعضُ الناسِ يعتقدُ قسوة وغلظة أنَّ الحنان بالوالدين ضعفٌ وذلة بأن يُقبِّلَ يدَ أمِّه أو رأسَها أو حتى رجلْها..وكذلك أبيه! فكن شديد الرقّة مع الوالدين لاسيما عند الكبر تواضعْ لهما،واخفضْ لهما جناحَ الذُلِّ رحمةً وعَطْفَاً وطاعةَ وحسنَ أدب، فلقد أقبلا على الشيخوخة والكبر،وتقدَّما نحوَ العَجْزِ والهرمَ بعد أن صرفَا طاقَتَهما وصحّتَهما وأموالَهما في تربيتكِ وإصلاحِك. تأَّمل حفظكَ الله قولَ ربك..((إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ))إن كلمةَ (عندَك) تدلُّ على التجائِهما واحتمائِهما وحاجتِهما إليك،لما أنهيا مهمتهما،وانقضى دورهما،وابتدأ دورك،وها هي مهمتُك((فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا*واخفض لهما جناح الذل من الرحمة))قال رجلٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه..{إن لي أماً بلغ منها الكبر أنَّها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية،فهل أديتُ حقَّها؟قال..لا لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنَّى بقاءك،وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها،ولكنك محسن،والله يثيب الكثير على القليل}فاعترف أخي دوماً بالتقصير وأكثر الدعاءَ لهما في الحياة وبعد الممات اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله..
أيها الإخوة..العقوقُ كثُر فوصل لآباءَ وأمهاتٍ كبار يُرموْن في دور العجزة.. رأيناهم لا يسأل عنهم أحد حتى بعد موتهم لايحضرون ولا حول ولا قوة إلا بالله..قال ابن عباس رضي الله عنهما((ما من مسلم له والدان يصبح إليهما محتسباً(أي بخدمتهما)إلا فتح الله له بابين من الجنة، وإن كان واحداً فواحد،وإن أغضبَ أحدهمَا لم يرضَ الله عنه حتى يرضى والداه عنه..قيل وإن ظلما قال..وإن ظلما))..أدرك ذلك السلف فكانوا بارِّين بوالديهم..يُوصى صلى الله عليه وسلم الصحابة خيراً بأويس القرني بأن يدعو لهم وقال عنه لو أقسم على الله لأبرَّه لأنه بارٌّ بأمه..وعليُّ زين العابدين من سادات التابعين،كان رحمه الله بارَّاً بأمه حتى قيل له..إننا لسنا نراك تأكل مع أمك في صحفة، فقال..أخافُ أن تسبقَ يدي إلى ما سبقت إليه عينُها،فأكونَ قد عققْتُها وحيوة بن شريح من الأئمة والعلماء وهو في حلقة العلم بين طلابه تقول له أمه..قم فاعلف الدجاج،فيقوم ويترك التعليم..وبكَى إيَّاسُ بنُ معاويةَ حينَ ماتتْ أُمُّهُ، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ.."كانَ لي بابانِ مفْتوحانِ إلى الجنَّةِ فأُغْلِقَ أَحَدُهُما"الله المستعان من أحوالنا مع آبائنا وأمهاتنا نسأل الله أن يعفوَ عنا..
أيها الأحبة..العارُ والشنارُ والويلُ والثبورُ أن يُفاجأ الوالدان بالتنكر للجميل، كانا يتطلَّعان للإحسان،ويؤمّلان الصلةَ بالمعروف،فإذا بهذا المخذولُ قد تناسى ضعفهَ وطفولتَه،وأُعجبَ بشبابهِ وفتوته،وغرَّه تعليمُه وثقافتُه، وترفَّع بجاهِه ومرتبتهِ، يتأفّفُ ويتبرّم، ويجاهرْهما بالسوءِ وفحشِ القولِ والشتم، يقهرْهما وينهرْهما، بل ربما عياذاً بالله يضربْهما! يريدان حياته،ويتمنَّى موتهما،وكأنّي بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين..والشواهدُ والقصص موجودة لو استمعتم إلى بعضها مما وقفنا عليها في المحاكم والشرط ودور المسنين لأدركتم حجم إهمال الأبوين والنسيان من البعض عياذاً بالله ..
يا أيها المخذول العاق بوالديه..هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتَهما أهونَ الأشياء عليك؟!تُقدّم لغيرهما الإحسان،من صاحب أو زوجةٍ أو ولدٍ!! قابلت جميلَهما بالنسيان.شق عليك أمرهما،وطول عمرهما.أما علمتَ أن من برَّ بوالديه برَّ به بنوه،ومن عقّهما عقّوه،ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك،وسيفعلون بك ما فعلته بوالديك،وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل يقول صلى الله عليه وسلم..((ما من ذنب أجدرُ أن تُعجّل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))وفي الحديث ((رغم نفه..رغم أنفه..رغم أنفه..قيل مَنْ يا رسول الله؟قال..من أدرك أبويه عند الكبر أحدَهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة أي بهما))وأكبرُ الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين،وأن يلعنَ الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعنُ الرجل والديه؟!قال..يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه..ويسب أمه فيسبُّ ذاك أمه)) متفق عليه..وفي الحديث..((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.. وذكر منهم العاق لوالديه))وريح الجنة التي توجد من مسيرة ألف عام لا يجدها عاقٌّ كما في الحديث..
أيها الإخوة..بادروا بالبرّ بالوالدين قبل أن تندموا بعد وفاتهما ولنتعاهد الله ببرهما وخفض جناح الذلة لهما بتحمّلهما من هذا المكان ولنقبّل يدَ أمهاتنا وآبائنا ورؤسهم ونطلبُ عفوَهم..ونتعاهدُ شؤونهم بطيب نفس..
وبرُّ الوالدين لاينتهي بوفاتهما بل إن من البر أن يتعهد الرجل أصدقاء والديه،بزيارتهم وإكرامهم،كما قال عليه السلام((إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)) رواه مسلم وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال..هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟قال صلى الله عليه وسلم..((نعم الصلاة عليهما،وإنفاذ عهدهما،وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما،وإكرام صديقهما من بعدهما)) ومن البر بوالديك في حياتهما وبعد موتهما الصدقة عنهما والدعاء والاستغفار لهما..فذلك من العمل الذي لا ينقطع وهو سبب لوصفك بالصلاح((ولد صالح يدعو له))قال صلى الله عليه وسلم((إن الرجل لتُرفعُ درجتُه في الجنة فيقول..أنى هذا يارب فيقال له..باستغفار ولدك لك))رواه ابن ماجه و حسنه الألباني..ومن البر بهما أداء ديونهما وإذا كان عليهما فرض صومٍ أو حجٍ تهاونوا بأدائه يؤديه الإنسان عنهما كما في الحديث..وكذلك وصية لإخواني المقيمين والمُغتربين ممن يعمل أن بعضهم يجلس فترة طويلة لا يتواصل مع والديه لا بهاتف ولا رسائل أو غيرها وكذلك لا ينفق عليهما وقد يكونان بحاجة إلى شيءٍ مما يحصله هنا فواجبٌ عليه إعطاؤهما قبل زوجته وأولاده..
فاستيقنوا هذا رحمكم الله،فالبرُّ بجميع وجوهه بركةٌ في العمر والرزق، وصلاحٌ في الأبناء،والعقوق خيبة وخسارة وخذلان.وقد قيل.. إن الله ليُعجّل هلاكَ العبد إذا كان عاقاً ليعجل له العذاب،وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيدَه براً وخيراً..((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًاوَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًارَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَـٰلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً))اللهم اجعلنا لوالدينا بارين ولهم مستغفرين وبالدعاء قائمين. أقول ماتسمعون ..
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ،وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ
ننبه هنا أيها الإخوة أن واجبَ الوالدين أن يكونا عوناً لأولادهم في البر بهم بمعاملتهم بالحسنى منذ الصغر وتربيتهم على التقوى والعدل فيما بينهم فإن ذلك أدعى للبر بهم وأبعد عن العقوق بهم بعد كبرهم أو تباعدهم.. فإن مما يُؤسى له وجودُ نماذجَ من الوالدين لا يعينون على البر بهم فإما أبٌ قاسي غليظ على أولاده بكلامه وأفعاله يحرمهم من حياتهم أو هو مهملٌ في بيته عنيفٌ في تعامله أو عياذاً بالله يتعدى على أموال بناته ظلماً ويعضلهن عن الزواج..أو تجدُ أمّاً مهملةً غير مهتمةً بالتربية أو تُدلّلُ لحد الضياع أو تصلُ لحد تخريب بناتها على أزواجهن أو تؤلبهن على الأب وغير ذلك من أمثلة من تصرفات الوالدين وقفنا عليها! فكيف يرجو الوالدان البرَّ من أولادهم وهم بهذه التصرفات؟!فلا بد من التعاون جميعاً على قيام البر والصلة بالمعروف لحياة سعيدة دنيا وآخرة..
اللهم أعنا على بر والدينا والقيام بحقوقهم و أداء واجباتهم وإكرامهم وامنن علينا بحياةٍ هنيئة وسعادة غامرة ومنك مغفرة ورحمة إنك سميع مجيب اللهم انصر جنودنا واحم حدودنا ووفق ولاة أمرنا وكن لإخواننا المستضعفين في العراق والشام وفلسطين وسائر بلاد المسلمين.. وعليك بالطغاة أجمعين ..واكفنا شر الفساد والمفسدين..
أيها المسلمون..جُبلت النفوس على حُبّ من أحسن إليها،وتعلَّقت القلوبُ بمَنْ له فضلٌ عليها،وليس أعظمَ إحساناً ولا أكثر فضلاً بعدَ اللهِ سبحانَه وتعالى من الوالدين..قرن الله حقَّهما بحقّه وشكرهما به، وأوصى بهما بعد عبادته..((وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً)) وكما لله سبحانَه نعمةُ الخلقِ والإيجاد،فللوالدين بإذنه نعمةُ التربيةِ والإيلاد.. قال ابنُ عباس رضي الله عنهما((شكرُ اللهِ مع شكر الوالدين ورضاه في رضاهِما وسخطُه من سخطِهما))إحسانُ الوالدين عظيم،وفضلُهما سابق، تأمَّلوا حالَ الصغر،وتذكَّروا ضعفَ الطفولة ((رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا))تذكَّروا عظمَ حق الوالدين الذي نُكرّرُ التذكيرَ به في زمنٍ كثر فيه العقوق حتى وصل ببعضهم لإهانة والديه بل والاعتداء عليهما بالضرب والعنف بل وحتى القتل..كما سمعنا قبل أيام من اعتدى على أمّه في جرائمَ لم نكنْ نعرفْها ولا نتوقَّعُها ولا يفعلُها إلا من عُدمت الرحمةُ من قلبِه والوفاءُ من خلقه ولا حول ولا قوة إلا بالله ونعوذ بالله من غياب البرِّ وانتكاسِ الفِطر..
حملتْك أمُّك-يا عبد الله-في أحشائِها تسعةَ أشهر،وهناً على وهن،حملتْك كُرهاً،ووضعتك كُرهاً،ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً..وعندَ الوضع رأتَ الموت بعينها..ولما بَصُرت بك إلى جانبها سَرْعان ما نسيَتْ آلامَها،وعلَّقت فيكَ آمالَها..رأت فيك بهجة الحياة وزينتَها،ثم شُغلت بخدمتِك ليلها ونهارَها،تُغذِّيك بصحتِها..طعامُك دَرُّها..وبيتُك حِجْرُها.. ومركبُك يداها وصدرُها وظهرُها..تُحيطك وترعاك..تجوعُ لتُشبعَك، وتسهرُ لتنام..رحيمةٌ عليك شفيقةٌ بك..إذا غابت عنك دعوْتَها..وإذا أعرضَت عنك ناجيتَها..وإذا أصابك مكروهٌ استغْثتَ بها..وإن هُوجمتَ احتميتَ عندَها..تحسبُ كلَّ الخيرِ عندَها..وتظنُّ أنَّ الشرَّ لا يصلُ إليك إذا ضمّتكَ إلى صدرِها أو لحظْتك بعينِها!! هذه الأم التي لو حججت بها على ظهرك وطُفت بها وسعيت تحملها فوقَ ظهرك لا توازي زفرة أليمة من زفرات ولادتها بك..نسأل الله أن يجزي أمهاتنا خير الجزاء ويرزقنا برَّهن وطاعتَهن ويدخلهنَّ الجنان.
أما أبوك فأنت له مجبنةٌ مبخلة..يكِدُّ ويسعى..ويدفعُ عنك صنوفَ الأذى.. يتحمَّلُ الأخطار والأسفار بحثاً للقمةِ العيش..ينفقُ عليك ويُصلحك ويربيك..إذا حضرَ احتضنت حُجْره وصدْرَه..يفتخرُ ويُفاخر بك ويرجو خيرك وبَّرك ويسهرُ لجوعكِ وألمكِ،هذان هما والداك،وتلكَ هي طفولتُك وصباك، فلماذا التنكّرُ للجميل؟وعلامَ الفظاظةُ والغلظة،وكأنكَ أنتَ المنُعمُ المتفضِّل؟!والله إنا لنحزن ونحن نسمعُ عقوقاً هنا وهناك..يأتيك أبٌ يشكي وأمٌّ تبكي من العقوق فهل غاب عنا دورُ الوالدين وأهميةُ برِّهما أم قست القلوب لدرجة نسيان فضلهما.
أقبلَ رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال.. أبايُعك على الجهادِ والهجرةِ أبتغي الأجر قال..((فهل من والديك أحدٌ حي))؟ قال..نعم بل كلاهما.قال..((فتبتغي الأجرَ من الله؟)).قال..نعم.قال..((فارجعْ إلى والديك فأحسنْ صحبتهما))متفقٌ عليه وفي رواية ((الزمْهُما فإن الجنةَ تحت أقدامهما)) هذا وهو الجهاد فكيف بالانشغال بأشياء أخرى!!
أيها الإخوة..نحتاجُ للتأكيد دوماً على بر الوالدين فإن حقهما عظيم، ومعروفُهما لا يُجازى،لهما المحبةُ والتقدير،والطاعةُ والتوقير،والتأدّبُ أمامهمَا،وصدقُ الحديثِ معهُما،وتحقيقُ رغبتهما في المعروف،وتنفقُ عليهما ما استطعت..((فأنتَ ومالُك لأبيك))..ادفعْ عنْهُما الأذى..لا تحدثْهُما بغلظةٍ أو خشونة أو رفعِ صوت..جنَّبْهما كلَّ ما يُورثُ الضجر..((لاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا))تخيرَّ كلماتٍ لطيفة وعباراتٍ جميلة وقولاً كريماً..قبَّل رأسيْهما ويديْهما وأجلسْهما برأسِ المجلس.. وعلّم أولادك ذلك الاحترام لوالديهم فبعضُ الناسِ يعتقدُ قسوة وغلظة أنَّ الحنان بالوالدين ضعفٌ وذلة بأن يُقبِّلَ يدَ أمِّه أو رأسَها أو حتى رجلْها..وكذلك أبيه! فكن شديد الرقّة مع الوالدين لاسيما عند الكبر تواضعْ لهما،واخفضْ لهما جناحَ الذُلِّ رحمةً وعَطْفَاً وطاعةَ وحسنَ أدب، فلقد أقبلا على الشيخوخة والكبر،وتقدَّما نحوَ العَجْزِ والهرمَ بعد أن صرفَا طاقَتَهما وصحّتَهما وأموالَهما في تربيتكِ وإصلاحِك. تأَّمل حفظكَ الله قولَ ربك..((إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ))إن كلمةَ (عندَك) تدلُّ على التجائِهما واحتمائِهما وحاجتِهما إليك،لما أنهيا مهمتهما،وانقضى دورهما،وابتدأ دورك،وها هي مهمتُك((فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا*واخفض لهما جناح الذل من الرحمة))قال رجلٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه..{إن لي أماً بلغ منها الكبر أنَّها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية،فهل أديتُ حقَّها؟قال..لا لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنَّى بقاءك،وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها،ولكنك محسن،والله يثيب الكثير على القليل}فاعترف أخي دوماً بالتقصير وأكثر الدعاءَ لهما في الحياة وبعد الممات اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله..
أيها الإخوة..العقوقُ كثُر فوصل لآباءَ وأمهاتٍ كبار يُرموْن في دور العجزة.. رأيناهم لا يسأل عنهم أحد حتى بعد موتهم لايحضرون ولا حول ولا قوة إلا بالله..قال ابن عباس رضي الله عنهما((ما من مسلم له والدان يصبح إليهما محتسباً(أي بخدمتهما)إلا فتح الله له بابين من الجنة، وإن كان واحداً فواحد،وإن أغضبَ أحدهمَا لم يرضَ الله عنه حتى يرضى والداه عنه..قيل وإن ظلما قال..وإن ظلما))..أدرك ذلك السلف فكانوا بارِّين بوالديهم..يُوصى صلى الله عليه وسلم الصحابة خيراً بأويس القرني بأن يدعو لهم وقال عنه لو أقسم على الله لأبرَّه لأنه بارٌّ بأمه..وعليُّ زين العابدين من سادات التابعين،كان رحمه الله بارَّاً بأمه حتى قيل له..إننا لسنا نراك تأكل مع أمك في صحفة، فقال..أخافُ أن تسبقَ يدي إلى ما سبقت إليه عينُها،فأكونَ قد عققْتُها وحيوة بن شريح من الأئمة والعلماء وهو في حلقة العلم بين طلابه تقول له أمه..قم فاعلف الدجاج،فيقوم ويترك التعليم..وبكَى إيَّاسُ بنُ معاويةَ حينَ ماتتْ أُمُّهُ، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ.."كانَ لي بابانِ مفْتوحانِ إلى الجنَّةِ فأُغْلِقَ أَحَدُهُما"الله المستعان من أحوالنا مع آبائنا وأمهاتنا نسأل الله أن يعفوَ عنا..
أيها الأحبة..العارُ والشنارُ والويلُ والثبورُ أن يُفاجأ الوالدان بالتنكر للجميل، كانا يتطلَّعان للإحسان،ويؤمّلان الصلةَ بالمعروف،فإذا بهذا المخذولُ قد تناسى ضعفهَ وطفولتَه،وأُعجبَ بشبابهِ وفتوته،وغرَّه تعليمُه وثقافتُه، وترفَّع بجاهِه ومرتبتهِ، يتأفّفُ ويتبرّم، ويجاهرْهما بالسوءِ وفحشِ القولِ والشتم، يقهرْهما وينهرْهما، بل ربما عياذاً بالله يضربْهما! يريدان حياته،ويتمنَّى موتهما،وكأنّي بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين..والشواهدُ والقصص موجودة لو استمعتم إلى بعضها مما وقفنا عليها في المحاكم والشرط ودور المسنين لأدركتم حجم إهمال الأبوين والنسيان من البعض عياذاً بالله ..
يا أيها المخذول العاق بوالديه..هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتَهما أهونَ الأشياء عليك؟!تُقدّم لغيرهما الإحسان،من صاحب أو زوجةٍ أو ولدٍ!! قابلت جميلَهما بالنسيان.شق عليك أمرهما،وطول عمرهما.أما علمتَ أن من برَّ بوالديه برَّ به بنوه،ومن عقّهما عقّوه،ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك،وسيفعلون بك ما فعلته بوالديك،وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل يقول صلى الله عليه وسلم..((ما من ذنب أجدرُ أن تُعجّل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))وفي الحديث ((رغم نفه..رغم أنفه..رغم أنفه..قيل مَنْ يا رسول الله؟قال..من أدرك أبويه عند الكبر أحدَهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة أي بهما))وأكبرُ الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين،وأن يلعنَ الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعنُ الرجل والديه؟!قال..يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه..ويسب أمه فيسبُّ ذاك أمه)) متفق عليه..وفي الحديث..((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.. وذكر منهم العاق لوالديه))وريح الجنة التي توجد من مسيرة ألف عام لا يجدها عاقٌّ كما في الحديث..
أيها الإخوة..بادروا بالبرّ بالوالدين قبل أن تندموا بعد وفاتهما ولنتعاهد الله ببرهما وخفض جناح الذلة لهما بتحمّلهما من هذا المكان ولنقبّل يدَ أمهاتنا وآبائنا ورؤسهم ونطلبُ عفوَهم..ونتعاهدُ شؤونهم بطيب نفس..
وبرُّ الوالدين لاينتهي بوفاتهما بل إن من البر أن يتعهد الرجل أصدقاء والديه،بزيارتهم وإكرامهم،كما قال عليه السلام((إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)) رواه مسلم وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال..هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟قال صلى الله عليه وسلم..((نعم الصلاة عليهما،وإنفاذ عهدهما،وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما،وإكرام صديقهما من بعدهما)) ومن البر بوالديك في حياتهما وبعد موتهما الصدقة عنهما والدعاء والاستغفار لهما..فذلك من العمل الذي لا ينقطع وهو سبب لوصفك بالصلاح((ولد صالح يدعو له))قال صلى الله عليه وسلم((إن الرجل لتُرفعُ درجتُه في الجنة فيقول..أنى هذا يارب فيقال له..باستغفار ولدك لك))رواه ابن ماجه و حسنه الألباني..ومن البر بهما أداء ديونهما وإذا كان عليهما فرض صومٍ أو حجٍ تهاونوا بأدائه يؤديه الإنسان عنهما كما في الحديث..وكذلك وصية لإخواني المقيمين والمُغتربين ممن يعمل أن بعضهم يجلس فترة طويلة لا يتواصل مع والديه لا بهاتف ولا رسائل أو غيرها وكذلك لا ينفق عليهما وقد يكونان بحاجة إلى شيءٍ مما يحصله هنا فواجبٌ عليه إعطاؤهما قبل زوجته وأولاده..
فاستيقنوا هذا رحمكم الله،فالبرُّ بجميع وجوهه بركةٌ في العمر والرزق، وصلاحٌ في الأبناء،والعقوق خيبة وخسارة وخذلان.وقد قيل.. إن الله ليُعجّل هلاكَ العبد إذا كان عاقاً ليعجل له العذاب،وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيدَه براً وخيراً..((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًاوَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًارَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَـٰلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً))اللهم اجعلنا لوالدينا بارين ولهم مستغفرين وبالدعاء قائمين. أقول ماتسمعون ..
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ،وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ
ننبه هنا أيها الإخوة أن واجبَ الوالدين أن يكونا عوناً لأولادهم في البر بهم بمعاملتهم بالحسنى منذ الصغر وتربيتهم على التقوى والعدل فيما بينهم فإن ذلك أدعى للبر بهم وأبعد عن العقوق بهم بعد كبرهم أو تباعدهم.. فإن مما يُؤسى له وجودُ نماذجَ من الوالدين لا يعينون على البر بهم فإما أبٌ قاسي غليظ على أولاده بكلامه وأفعاله يحرمهم من حياتهم أو هو مهملٌ في بيته عنيفٌ في تعامله أو عياذاً بالله يتعدى على أموال بناته ظلماً ويعضلهن عن الزواج..أو تجدُ أمّاً مهملةً غير مهتمةً بالتربية أو تُدلّلُ لحد الضياع أو تصلُ لحد تخريب بناتها على أزواجهن أو تؤلبهن على الأب وغير ذلك من أمثلة من تصرفات الوالدين وقفنا عليها! فكيف يرجو الوالدان البرَّ من أولادهم وهم بهذه التصرفات؟!فلا بد من التعاون جميعاً على قيام البر والصلة بالمعروف لحياة سعيدة دنيا وآخرة..
اللهم أعنا على بر والدينا والقيام بحقوقهم و أداء واجباتهم وإكرامهم وامنن علينا بحياةٍ هنيئة وسعادة غامرة ومنك مغفرة ورحمة إنك سميع مجيب اللهم انصر جنودنا واحم حدودنا ووفق ولاة أمرنا وكن لإخواننا المستضعفين في العراق والشام وفلسطين وسائر بلاد المسلمين.. وعليك بالطغاة أجمعين ..واكفنا شر الفساد والمفسدين..