الحمد لله جعل لنا في الحلال غنية وكفاية عن الحرام،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلّام وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله،المرسل رحمةً للأنام،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام،والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين،وسلّم تسليما كثيرا .. أما بعد أيها الناس..اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه
أيها الإخوة المؤمنون..ظل الحديث النبوي بأحكامه الشرعيّة وفصاحته اللغويّة مصدراً ثانياً للتشريع بعد كتاب الله المبين،ومكانةُ السنة في الإسلامِ عظيمةٌ ولها قوةٌ تشريعيةٌ ملزمة،ونقف بكم اليوم مع حديثٍ عظيم للنبي صلى الله عليه وسلم قال عنه أهل العلم أن جُلّ الإسلام يقوم على هذا الحديث ويعظم به.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول[إن الحلال بين وإن الحرام بينٌ،وبينهما أمورٌ متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه،ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام،كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه،ألا وإن لكلِّ ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه،ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله،وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب] متفق عليه
الحلال البيّنُ وهو الطيبات من المآكل والمشرب والملابس والمناكح والمكاسب وغيرها فما نصَّ الله على حلِّه أو لم يرد دليلٌ بتحريمه فيبقى على الإباحة..والحرام البيّنُ وهو الخبائث من المآكل والمشرب والملابس والمناكح والمكاسب وغيرها مما ينص الله على تحريمه أو ظهر خبثه وضرره..كالميتةِ والدم ولحم الخنزير والخمر والزنى وأموال الربا وأكل أموال الناس بالباط سرقةً وظلماً ورشوة وغش وخديعة أو بالخصومات الفاجرة والأيمان الكاذبة وشهادة الزور وغيرِ ذلك من أنواع الظلم..
فالحلال البيّن كلًّ يعرفه العالم والجاهل ونفس المؤمن تطمئنُ إليه،وله آثارٌ طيبة على القلب والسلوك،وله فوائدٌ صحية للجسم والقلب لأنَّه يُغذَّى تغذيةً طيبةً ويُقويِّ على الطاعة((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) والمسلم يأخذه ويتمتع به من غير إسرافٍ ويتقوى به على طاعة الله،ويشكر الله عليه.والحرام البين أيضاً كلُّ يعرفه ونفس المؤمن لا تطمئن إليه،وله آثارٌ قبيحةٌ وأضرارٌ على الجسم والقلب والمسلم يجتنبه ويبتعد عنه لا يُدخله في ماله ولا يأكل منه..وهناك المتشابهات وهو ما يخفى حكمها على كثير من الناس،فلا يدرون هل هي من الحلال أم من الحرام.؟ وحكمها للراسخين في العلم كاختلاط المال الحلال بالحرام على وجهٍ لا يمكن التمييز بينهما والمسلم هنا يتوقف عنه تورُّعاً حتى يتبين له حكمه إيثاراً للسلامة وبراءةً للذمة كمال قال صلى الله عليه وسلم[فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه] أي طلب البراءة لدينه من النقص ولعرضِه من الذم..ويسأل العلماء اجتناباً للشبهات لأنه من وقع في الشبهات وقع في الحرام، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك..وكم عبر القرآن بكلمة ((ولا تقربوا))قبل الوقوع لأن القرب من الشبهات يوقع في المحرمات ولذلك حذرنا الله منها..وما اشتبهت بحكمه فابتعد عنه!
عـباد الله،المال خضرةٌ حلوة وهو كما يجلب السعادة فإنه ببعض مصادره يجلبُ الحرام فلقد جبل الله عز وجل الخلق على حب المال، والحرص على طلبه وتحصيله؛ لأن به قوام حياة الناس وانتظام أمر معايشهم وتمام مصالحهم..وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعـل للحصول عليه ضوابط وقواعـد واضحة المعالم، وحدوداً لا يجوز تعدّيها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة..وقد أوجب الله على المسلم أن يطلب المال ويسعى في أسباب تحصيله مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح، حتى يستغني المرء به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق، فطلب الرزق وتحصيله شرف للمؤمن وعزة للمسلم، به تُصان الأعراض وتحفظ الكرامة،وبه يستعان على كثيرٍ من أعمال البر والطاعة، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه(يا حبذا المال، أصون به عرضي، وأُرضي به ربي).
الكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب،ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.
أما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب،وينطفئ نور الإيمان،ويحلُّ غضب الجبار،ويمنع إجابة الدعاء. المال الحرام،ممحوق البركة والمحصول،ثم هو لأوزاره مُحتَمِل وعليه معاقب.وفي الحديث أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له صلى الله عليه وسلم((يا سعد،أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمدٍ بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عملٌ أربعين صباحًا، وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحت فالنار أولى به))وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام،ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام،فأنَّى يُستجاب لذلك؟!فلقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره،ولكنه قد قطع صلته بربه،وحَرَمَ نفسه من مدد الله وفضله،وحال بينه وبين قبول دعائه استعمال الحرام في المأكل والمشرب والملبس..وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر وما هو؟ فقال تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه وفي رواية أنه قال لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه من أين لك هذا؟ فقال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء هذا عمر الذي يقول[كنا ندع كثيراً من المباح خشية الوقوع في الحرام]وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار. إذاً فليست العبرة بوجود المال وكثرته بل بحلّه وحرمته!
والله المستعان إخوتي من أحوالنا اليوم وبعضنا يتسابق لأيِّ إعلانٍ وكسبٍ بدون رويّةٍ ولا بحثٍ عن حلِّّ كسبه أو حرمته..وإن من العجب أن يحتمي بعض الناس من أكل الحلال من الأطعمة مخافة
المرض ولا يحتمون من الحرام في المال مخافة النار، وما ذاك إلا لقسوة القلوب واستيلاء الغفلة على النفوس وضعف الإيمان وقلة البصيرة في الدين..أو قد تجد البعض يستهتر بفتاوى العلماء المعتبرين يظن أن سائقهم الهوى وهم إنما يبحثون عن الحق ويدرسونه فينبغي اعتبار رأيهم والرجوع لكلمتهم!! ولا تغرنّك كثرة المخالفة!
عباد الله،إن للمكاسب المحرمة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع، فهي تُضعف الديانة،وتعمي البصيرة، وهي سبب لمحق البركة في الأرزاق، وحلول المصائب والرزايا، وحصول الأزمات المالية المستحكِمة والبطالة المتفشية، وانتشار الفتن والشحناء والعداء والبغضاء..
وإن مما يؤسى له عظيم الأسى أن في الناس من لا يتحاشون عن اكتساب المال الحرام وتحصيله من أي طريق وعبر أي وسيلة، إذ ليس لهم همٌّ إلا تكديس الأموال وتضخيم الثروات، فالحلال في عرفهم ما قدروا عليه، وحلَّ في أيديهم والحرام ما تعذر وصولهم إليه، يسلكون في طلبه مسالك معوجَّة وسبلاً مشبوهة، بل وقد لا يكترثون من المجاهرة بالمكاسب المحرمة والاستيلاء على الأموال المحرمة التي لا شبهة في تحريمها، حتى أصبح هذا المسلك ظاهرة مألوفة في كثير من مجتمعات المسلمين،حيث فشا فيها أكل الربا وتعاطي الرشوة التي اصبحت عادية ببعض المجتمعات وبها تنجز المعاملات؛ وكذلك الغصب والسرقة والمتاجرة بالمحرمات كالخمور والمخدرات اللهو والغناء،وتطفيف المكاييل والموازين والغش والخداع في البيوع والمعاملات،وإنفاق السلع بالأيمان الفاجرة والاستيلاء على الحقوق والممتلكات، واختلاس الأموال الخاصة والعامة،بأساليب مختلفة وسبلٍ متنوعة، بلا خوفٍ من الله ولا حياءٍ من عباد الله، في صور مهينة من صور البطر والطمع لدى بعض النفوس،مع ضعف وازع الإيمان،والمروءة ومكارم الأخلاق،قال صلى الله عليه وسلم((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام؟)) انظروا للربا كيف غزى ومحق البركة وتهاون فيه الناس..
والله تعالى يقول عنه((يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)) أما أصحاب الغش والمطفلين فويلٌ لهم((ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ)) وفي الحديث عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من اقتطع حق امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة))، فقال له رجل وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال ((وإن كان قضيبًا من أراك)) رواه مسلم فاتقوا الله عباد الله، ولتجتنبوا ما حرم ربكم عليكم ونهاكم عنه من المكاسب الخبيثة والأموال المحرمة، ولتقنعوا بما أحل لكم من الطيبات، ففي الحلال الغنية والكفاية والسعادة في الدنيا والآخرة.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، يا واسع الفضل والإحسان، يا أكرم الأكرمين.((يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ))
الخطبة الثانية ...الحمد لله وحده والصلاة و السلام على من لا نبي بعده وبعد..
أيها الناس..اتقوا الله تعالى واعلموا أن التقوى صلا ح القلب فإذا صلح القلب صلحت الأعمال والتصرفات قال تعالى ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)) وهذه وقفة عظيمة مع كلمته صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي ما زلنا نتأمل معانيه ((ألا وإن في الجسد مضغةً إلى صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )) فصلاح حركات العبد واجتنابه للمحرمات واتقاؤه للشبهات بحسب صلاح قلبه،فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه الله.صلحت حركات الأعضاء كلها ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات..وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يشتهيه الإنسان ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعثت إلى المعاصي والمشتبهات ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم (() يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))..واعلموا أن القلب يتأثر ويمرض بفعل المعاصي وترك الطاعات فيمرض بالنفاق يقول جل وعلا في المنافقين((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً)) بالمعاصي بغلافٍ فلا يصل إليه نورٌ ولا تؤثر فيه موعظة إلا ما شاء الله وهذا هو الران الذي قال تعالى فيه ((كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))كما أن أكل الحرام،وعدم التورع عن الآثام ويُقسي القلب فلا يُستجاب له دعاء قال صلى الله عليه وسلم[أبعد الناس من الله القلب القاسي] رواه الترمذي.. فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على صحة قلوبكم من أمراض المعاصي أكثر مما تحافظوا على أجسامكم من الأمراض الحسية وداووها بكتاب الله وسنة رسوله فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ في دين الله بدعة وكل بدعة .......اللَّهُمَّ ارزقْنَا رزقًا حلالاً طيبًا وبارِكْ لنَا فيهِ واجعلْنَا مِنَ الشاكرينَ لكَ عليهِ،وجنبنا الحرام وباعدنا عنه ونجنا منه..اللَّهُمَّ إنَّا نسألُكَ كسبًا حلالاً،وصدقًا فِي القولِ والعملِ،اللَّهُمَّ اجعلْنَا مِنَ الواصلينَ لأرحامِهِمْ والمحسنينَ إلَى جيرانِهِمْ وضعفائِهِمْ..